أحد أصعب أنواع الكتابة، ذلك الذي يطمح إلى تناول الشهداء، أو الحديث عنهم وعن مناقبهم، ستنتهي المادة عادة بكثير من المديح، وربما الكلام الشعري والشاعري عن الشهيد والشهادة. حالة الشيخ الشهيد خضر عدنان، ليست كحالة باقي الشهداء، فالشيخ جرّب الشهادة مرات، مع كل إضراب خاضه في مواجهة إسرائيل بأسرها. ولعل حكايته التي بدأت عام 2005 مع أول إضراب خاضه عن الطعام لمدة 25 يوماً، والثاني عام 2011 الذي استمر 66 يوماً، وما تلاه من معارك خاضها، جعلته يرى أثر فعله في الشارع والناس داخل فلسطين وخارجها، بالأحرى جعلته يرى أثر أن يكون شهيداً مرات ومرات، باستثناء المرة الأخيرة، لن يرى الأثر، ولن يقرأ هذه المادة عنه، لكن من حسن حظنا نحن البسطاء في معاركنا وفي مواجهتنا، أن الشيخ عرفنا جيداً قبل استشهاده.لكن، هذه الـ لكن، يجب أن تكون كبيرة جداً، ويجب أن توضع بشكل مشوّه، يدلّل على هشاشتنا، أو هشاشة فعلنا مقارنة مع فعله وفعل عائلته الصغيرة، فهؤلاء وحدهم من ساعدوه في إضرابه - مقاومته. قلّة من الناس من ذهبت لتقف إلى جانبهم، ولا أحد في الخارج وقف رافعاً صوت قلبه المنادي لربّه ووطنه. وحدها الصفحات الإلكترونية، نشرت صوره، رفعت صوته، و«مواكبة» الإعلام لمعركة الشيخ، ولم يكن لهذا الفعل من أثر في المعركة، فلم يجهر صوت الشيخ خضر، ولم يصل إلى مدى بعيد، يؤدي إلى إزعاج الاحتلال، فيكفّ عن قتله، وقتل رفاقه. يحقّ للشيخ لو قال «كنت وحيداً وعائلتي»، يحقّ له أن يشعر بالخذلان لو شعر بذلك، لكنه، ولأنه أصدق إنباء من الكتب، ومن التاريخ لاحقاً حين يحدث عنه، لم يقل ما أقول على لسانه، فخضر عدنان المناضل، كان يحمل روحه على كفه في سبيل آمن به، ومضى به إلى آخره.
إنّ بعضنا لا يريد أن يقرأ مثل هذا الكلام، لا يريد أن يقرأ «كلاماً» يجعله يشعر بالتقصير، أو يذكّره بأنّ بالإمكان أكثر ممّا كان


أتمنى لو كان بوسعي أن أكتب عنواناً لهذه المادة «لم يكن الشيخ وحيداً». لكن في ذلك مجافاة للحقيقة، وفي ذلك مدعاة للكذب المنمّق، فالواقع كان جليّاً، عائلة الأسير كانت وحدها مع قلّة قدموا لمساندتها؛ منهم الشاعر زكريا محمد الذي كتب على صفحته في «فايسبوك»: «على دوّار المنارة تعتصم زوجة الشيخ خضر عدنان وأطفاله. قررت أن أتضامن معهم ومع الشيخ خضر، الذي لم يترك مظلوماً في هذا البلد لم يتضامن معه. ذهبت إلى الدوار، فلم أجد سوى رجل واحد يبدو أنه قريب للشيخ. بقيت ما يقرب من ساعة فلم يأت أحد. ظلت المنارة فارغة إلا من زوجة الشيخ وأطفاله. بعد ساعة، عدت إلى المنزل لكي أكتب لكم: يا عيب الشوم، يا عيب الشوم. يا عيب الشوم على بلد لا يتضامن مع واحد مثل الشيخ عدنان، الذي يبدو أن السلطات الإسرائيلية قررت عدم الإفراج عنه هذه المرة. أي قررت إعدامه. يا عيب الشوم. يا عيب الشوم». كلام الشاعر الكبير، ليس مجرد كلام، وليس كالذي تقرأه أيها القارئ الكريم لشخص يجلس أمام شاشته، فزكريا محمد نزل إلى الشارع، شارك ورأى وعاد وكتب.
إنّ بعضنا لا يريد أن يقرأ مثل هذا الكلام، لا يريد أن يقرأ «كلاماً» يجعله يشعر بالتقصير، أو يذكّره بأن بالإمكان أكثر مما كان، لكن من الواجب أن أقول لنفسي، وأقول لنا جميعاً، أمامنا معارك أخرى كثيرة، وهذه واحدة واضحة جداً: معركة الأسير وليد دقة، الذي علّمنا ويعلّمنا من داخل أسره الطويل معرفة بكل ما للكلمة من معنى، ويخوض اليوم معركة جديدة من أعتى المعارك التي خاضها مع الأسرى خلال سنوات اعتقاله التي تجاوزت الـ 37، اليوم هو مريض، وعائلته والأصدقاء وعدد من المناضلين يطالبون بالإفراج عنه لتلقّي العلاج اللازم لحالته الصحية الاستثنائية، فإمّا أن يخذل هذا المفكر، كما خذل الشيخ خضر الذي لم يقصّر مع أحد، وإمّا أن تقف فلسطين ومن يناصرها معه ومع باقي الأسرى في معتقلات الاحتلال.
وليد دقة، ومثله الأسير عبد الرازق فراج الذي أجرى عملية أخيراً، وغيرهما من الأسرى المرضى الذين يعانون، ومثلهم الأسرى الذين يخوضون الإضرابات الفردية عن الطعام، وباقي الأسرى الذين يتجهّزون في كل لحظات حياتهم داخل السجن للمواجهة، يستحق هؤلاء، يستحقون منّا بعض الوفاء، على الأقل برفع الصوت عالياً «إنهم شرفنا»، وهذا الشرف العظيم يجب أن تخاض من أجله المعارك الجدية، لا الكلامية والخطابية ولا الفراغية حفظاً لماء الوجوه التي باتت تخلو من الملامح.