في خضمّ سنوات القحط الوطني، لمع نجمه لأوّل مرّة عندما أعلن الإضراب المفتوح عن الطعام ما بين عامَي 2011 و2012. لم يكن الشيخ الشاب آنذاك قد تجاوز الـ33 عاماً من العمر. في الضفة وغزة على السواء، كان المتضامنون معه يخلطون في ذكر اسمه ما بين خضر عدنان وعدنان خضر، لكن بعد 67 يوماً من الجوع، انتزع عقبها حرّيته، سيحفظ جميع سجّانيه ومِن خلفهم الجيش المنتشر على الحواجز اسمه «عن ظهر غيب». في صبيحة اليوم التالي، خرج من منزله للمشاركة في وقفة تضامنية مع زملائه الأسرى. وفي الطريق من بلدته عرابة في قضاء جنين، أوقفته حواجز إسرائيلية عدّة، غير أن جنود الاحتلال الذين يحتجزون كلّ مَن لا يُشهر هويّته، لم يعترضوه ولم يعتقلوه لأنه يسير بلا هوية، فقدْ حفظوا اسمه وشكله وملامحه جيداً، بوصفه الأسير الأوّل الذي يكسر قرار الاعتقال الإداري، بل ويسنّ لغيره سُنّة الإضراب عن الطعام. مذّاك، تحوّل الشيخ إلى أيقونة وطنية مثيرة للجدل، يجوب مدن الضفة ومخيّماتها كافة، باعثاً الحالة الوطنية الشعبية من ردم الانقسام الذي أنتج واقعاً أمنياً ومعيشياً مشوّهاً، أشرفت على هندسته المخابرات الأميركية والإسرائيلية رأساً، إلى فضاءات الفعل والرفض والتمرّد.

هو خضر عدنان محمد موسى (24/3/1978)، خرّيج قسم الرياضيات الاقتصادية في جامعة بيرزيت، والحاصل على درجة الماجستير في الاقتصاد من الجامعة نفسها. «أبو عبد الرحمن» الذي يؤهّله مستواه الأكاديمي لاحتساب الصفقات الرابحة والخاسرة جيّداً، خطّ لنفسه مبكراً، طريقاً «لا خسران فيها»، وفق ما قاله لـ«الأخبار» في عديد المرّات التي تحدّثنا معه فيها. تقوم فلسفته التي لم يصرّح عنها بدافع التواضع ومحاذرة الوقوع في فِخاخ «الأنا»، على أن كلّ مرحلة في حياة الأمم بحاجة إلى «مسيح»، أو كما قال في إحدى مقابلاته التلفزيونية «حسينٍ يضحّي»، فإن لم نستطع، «فزينبٍ تبلّغ»، وذلك بمعزل عن المردود الآني. المهمّ، بالنسبة إليه، أن تقوم بدورك وواجبك؛ فـ«التجّار وحدهم هم الذين تعنيهم حسابات الربح والخسارة».
عرفته الأجهزة الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية قبل أن نعرفه جميعاً، حين أَضرب عن الطعام لأوّل مرّة في سجن أريحا، احتجاجاً على اعتقاله بتهمة رشق رئيس الوزراء الفرنسي، ليونيل جوسبان، بالحجارة والبيض، خلال زيارة الأخير لجامعة بيرزيت عام 1998، وذلك احتجاجاً على وصْف جوسبان لـ«حزب الله» بـ«الإرهابي». يومها، أَضرب الشابّ الذي لم يكن عمره قد تجاوز الـ26 عاماً، عن الطعام لـ10 أيام، أُطلق عقبها سراحه. بسيط هو خضر، ومعقّدٌ للغاية في آن. في بيته، تغيب الحِدّة والجذرية، ويَظهر الزوج المخلص والمنتمي إلى عائلته إلى أبعد مدى، طفلاً وادعاً يعطي كلّ طفل من أطفاله حقّه من الدلال، وكأنه ابنه الوحيد. هكذا وصفته زوجته رندة موسى في حديث سابق. مَن لا يعرفه عن قرب يجهله كلّ الجهل، ليس متعصّباً كما قد تنبئ به هيئته، بل محبّ للجميع، بارّ بأخواته وأقربائه، يكرهه مَن يضيق بصنيعه ودوره الوطني، ويَكرهه أيضاً، من لا يُرضيه الصوت العالي في قول الحق ورفض الظلم.
في نهاية شباط 2022، يوم أَطلق عناصر الأجهزة الأمنية النار عليه خلال زيارته لعائلات شهداء نابلس الثلاثة، أدهم مبروكة ومحمد الدخيل وأشرف مبسلط، كانت البحّة قد نالت من صوته. في حديثه إلى «الأخبار» آنذاك، شكا من أن هناك مَن يكرهونه بلا سبب منطقي، ويتّهمونه بـ«الخيانة والعمالة»، ويسخرون من جرأته وحضوره. أمّا لماذا؟ فلأن واقع الصمت والتدجين الاقتصادي الذي يسعى الاحتلال إلى تغريب الضفة الغربية من خلاله عن القيام بدورها الوطني، يُعجب المستفيدين، ولأنه أيضاً، رفع صوته عالياً عقب جريمة اغتيال نزار بنات. ما بين عامَي 2011 و2012 أيضاً، سيغدو الشيخ الشاب، ذو اللحية الطويلة والنظّارة الطبية التي لا تفارق عينه، «المضحّي والمبلّغ» معاً؛ إذ استطاع الرجل، مراراً، أن يصنع الحدث الذي يكسر رتابة المشهد «الضفّاوي»، مع إضراب كلّ أسير أو أسرى بشكل جماعي، وإعلان الحركة الوطنية الأسيرة عن برنامج تضامني. في كلّ مرّة من تلك المرّات، كان يجوب وحيداً المحالّ التجارية التي لم تلتزم بالإغلاق، مناشداً أصحابها لـ«أجل الله والأسرى والوطن» أن يضحّوا بساعات من العمل نصرة لإخوانهم.
يكرهه مَن يضيق بصنيعه ودوره الوطني، ويَكرهه أيضاً، من لا يُرضيه الصوت العالي في قول الحق ورفض الظلم


وحين بدا وكأن نجمه قد خبا، أصرّ الشيخ الشاب على أن يصنع من ذاته النموذج الذي غاب طويلاً عن شكل القادة الحركيين، حين افتتح مخبزه الخاص ليَعول من رَيعه أبناءه ووالدَيه المسنَّين (توفّي أبوه عام 2020، وأمّه عام 2017، وقد أوصى هو بأن يُدفن إلى جانبهما). وأكثر من ذلك، سيسمح له «فرش المناقيش» الذي سيجوب به كلّ صباح أسواق المدن والمخيمات، فرصة نوعية للتفاعل مع الناس. في الحوار نفسه مع «الأخبار»، سأله كاتب هذه الأسطر عمّا إذا كان يمتلك مهنة أخرى يعتاش منها، فأحسّ حينها وكأنّنا نربأ بمقامه عن مهنة البسطاء تلك، ليجيب: «أنا عبد فقير من خلق الله، لستُ قائداً سياسياً يجلس في مكتب مكيّف، إنّما ولدٌ يريد أن يعيش وأولاده وقومه بكرامة (...) وأظنّ أن بيع مناقيش الزعتر لا ينتقص من كرامتي شيئاً».
ستمرّ السنون، ويكرّر والد الأطفال التسعة إضرابه المفتوح عن الطعام ستّ مرّات، في الأعوام 2004 و2012 و 2015 و2018 و2021، وأخيراً عام 2023. أكثر من 315 يوماً قضاها ابن الأعوام الـ45 مضرباً عن الطعام، قبل أن يرتقي يوم أمس شهيداً. في حديث إلى «الأخبار» مع زوجته قبل أيام، أكدت رندة موسى أن زوجها كان قد اعتُقل وهو يعاني أوضاعاً صحّية صعبة، لافتةً إلى أن الجميع كان يظنّ حين نقول إن «الشيخ يحتضر»، «(أنّنا) نبالغ» في وصف حالته لاستجرار التضامن والتعاطف، لكن «الشيخ الشهيد» فقدَ قَبل استشهاده 60 كيلوغراماً من وزنه، وبدا في محاكمته الأخيرة التي رفضت مصلحة إدارة السجون الإسرائيلية فيها إطلاق سراحه بكفالة، شاحباً ومرهَقاً وغير قادر على الحديث، وهو الذي نالت السجون ما مجموعه 8 سنوات من عمره، في 10 حالات اعتقال سابقة. رحل خضر عدنان وحيداً كما كان دائماً، في إضرابه واعتصاماته وفعالياته وخطاباته، مطْمئنّاً إلى أن الشارع الذي بذل حياته لأجل أن «يستعيد عافيته» - وفق تعبيره في لقاء سابق مع «الأخبار» - قد استعادها فعلاً. صحيح أن الثمن كان شهادته، غير أن السلاح الذي اشتهى أن يراه في كلّ حارة وبيت، معيداً أمجاد الانتفاضة الثانية في جنين، قد لمع من جديد، وليس في جنين وحدها.
جيش خضر وأشباله
«هي جيشي الأول ودرعي المنيع»؛ هكذا وصف عدنان زوجته، أمّ عبد الرحمن، في حديثه الذي تَكرّر خلال الأعوام الـ12 الماضية مع كاتب هذه السطور. يوم أمس، ظهرت رندة موسى، تماماً كما أوصاها أبو عبد الرحمن، صابرةً هادرةً عاتبةً كلّ العتب: «لا نريد من أحد أن يثأر لاستشهاد الشيخ، مَن تخاذلوا عن نصرته حيّاً، فَلْيوفّروا صواريخهم وخطاباتهم اليوم (...) لن أستقبل المعزّين باستشهاده، فقد نال ما تمنّى، لكن وصيّته التي أطالب بها الفصائل والسلطة، أن يشرّحوا جثمانه». أمّا أبناؤه، «فَلْيحفظ الاحتلال وجوههم جيّداً، لأنهم سيفعلون في الغد ما لم يُحسن والدهم فعله»، أضافت أمّ عبد الرحمن في الشارع الذي سكنه القهر، فيما ظَهر ابنها البكر محمولاً على أكتاف الجماهير، هاتفاً: «يا خضر ويا بطل اسمك هزّ المعتقل (...) تحيتنا بحرارة للشهيد النوارة».