رام الله | في نهاية عام 2011، قرّر ذلك الشابّ الأشقر الذي عرفته السجون منذ وقت مبكر، قرْع الجرس عالياً داخل سجون الاحتلال وخارجها، حين شرع في إضراب مفتوح عن الطعام ضدّ سياسة الاعتقال الإداري. إضرابٌ قرّر خوضه وحيداً لانتزاع حرّيته أو نيل شهادته، فظفر بالأولى، آنذاك، ممهِّداً بلحمه الذائب خلف القضبان، الطريق أمام بقيّة الأسرى لتنفيذ إضرابات شبيهة وانتزاع حرّيتهم. وبعد 12 عاماً على إضرابه الشهير الذي استمرّ قرابة 66 يوماً آنذاك، لم يَلِن عدنان في مقارعة الاحتلال ومقاومته، وكما قرع الجرس وفضَح سياسة الاعتقال الإداري بجوعه في البداية، ها هو يكتب اليوم آخر فصول النهاية بحياته. فالشيخ خضر الذي امتهن صناعة الخبز لشعبه في جنين وله من الأولاد 9، يلتقي الآن ربّه جائعاً حرّاً، مقاتلاً صلباً حتى الرمق الأخير كما في كلّ مراحل حياته، مجسّداً مقولة المعلّم فتحي الشقاقي: «واجب كلّ مرحلة هو مدّ الجسود لأداء الواجب الأكبر: قتال إسرائيل».وُلد خضر عدنان في بلدة عرابة في قضاء جنين شماليّ الضفة الغربية، يوم الـ24 من آذار من عام 1978، واستشهد فجر الثاني من أيار من سنة 2023 داخل زنازين الاحتلال، بعد إضرابه عن الطعام مدّة 87 يوماً رفضاً لاعتقاله إدارياً. وهو ينتمي إلى حركة «الجهاد الإسلامي»، ويُنسب إليه الفضل في تسجيل حالة نادرة في تاريخ الحركة الوطنية الأسيرة داخل سجون الاحتلال، عبر الإضراب الفردي عن الطعام وخوض معركة الأمعاء الخاوية، إذ خاض خلال فترات اعتقاله المتكرّرة 6 إضرابات من هذا النوع، هي: واحدٌ عام 2004 لمدّة 25 يوماً ضدّ عزله الانفرادي، وثانٍ لمدّة 66 يوماً عام 2012 وانتزع فيه حريته، وثالث لمدّة 52 يوماً عام 2015 نال من خلاله حريته أيضاً، ورابع لمدّة 59 يوماً عام 2018 وخرج منه حرّاً كذلك، وخامس لمدّة 25 يوماً عام 2021 وأفضى إلى تحرّره، وسادس عام 2023 لمدّة 87 يوماً وارتقى في نهايته شهيداً.
وعلى إثر رحيل الشيخ، عمّ الحزن الأراضي الفلسطينية، وتُرجم بإعلان الإضراب العام والشامل في أرجاء الضفة الغربية، وخروج تظاهرات ومسيرات احتجاجية، تَحوّل بعضها إلى مواجهات مع قوات الاحتلال، بينما نفّذ مقاومون عمليّتَي إطلاق نار، الأولى لشابّ على مركبات للمستوطنين كانت متّجهة إلى مستوطَنة «إيفني خيفتس» القريبة من طولكرم، وأسفرت عن إصابة 3 منهم بجروح طفيفة ومتوسّطة، وثانية لمجموعة مقاومين على منازل المستوطَنة نفسها. كذلك، أطلقت فصائل المقاومة في قطاع غزة عدّة قذائف صاروخية في اتّجاه مستوطنات «الغلاف» التي دوّت فيها صافرات الإنذار، في حين ألغى جيش العدو مناورة عسكرية تدريبية كانت مقرَّرة اليوم جنوب فلسطين المحتلة، وفرَض حالة التأهّب، ونشَر المزيد من بطّاريات «القبة الحديدية». وكانت تعهّدت الفصائل التي نعت عدنان، بالردّ على اغتياله، بينما ساد التوتّر والحداد مختلف سجون الاحتلال، التي شهد بعضها صدامات ومواجهات بين الأسرى والسجّانين. وأعلنت «لجنة الطوارئ الوطنية العليا» للحركة الوطنية الأسيرة، بدورها، الاستنفار الكامل داخل قلاع الأسر كافّة، والحداد المفتوح إلى أن يتمّ الردّ على الجريمة. أمّا «سرايا القدس»، الجناح العسكري لحركة «الجهاد الإسلامي»، فاستنفرت عناصرها في جميع وحداتها العسكرية، بعدما ألغت الحركة سفر أعضاء مكتبها السياسي من غزة إلى الخارج، والذي كان مقرَّراً لعقد أوّل اجتماع للمكتب المنتخَب أخيراً في الداخل والخارج. وينبئ هذا الاستنفار بإمكانية توسّع عمليات المقاومة للردّ على الجريمة، في وقت لا تزال فيه عمليات الاشتباك مستمرّة في الضفة الغربية، حيث وُثّق منها، خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، 23، بينها 9 عمليات إطلاق نار، إلى جانب اندلاع المواجهات في 11 نقطة.
يبدو واضحاً أن جريمة اغتيال الشيخ ستستتبع تداعيات مختلفة، سواء داخل سجون الاحتلال أو خارجها


هكذا، يبدو واضحاً أن جريمة اغتيال الشيخ ستستتبع تداعيات مختلفة، سواء داخل سجون الاحتلال أو خارجها، وخصوصاً في ظلّ التوتّر والترقّب السائدَين على الساحة الفلسطينية، والحرص على إبقاء حالة الاشتباك مستمرّة. وفي هذا الإطار، ذكرت صحيفة «هآرتس» العبرية أن المنظومة الأمنية تتابع بقلق ما يجري داخل المعتقَلات، والذي قد يؤدّي إلى تصعيد خارجها في قطاع غزة والضفة الغربية، في وقت تُجري فيه مشاورات حول إمكانية تسليم جثمان عدنان. وكما أعلن جيش الاحتلال التأهّب تحسّباً لما يمكن أن يحدث على الحدود مع القطاع، فإن مصلحة السجون رفعت، بدورها، حالة الاستنفار إلى الدرجة القصوى، وقرّرت تعزيز المعتقَلات بوحدات خاصة إضافية، تحسّباً لإمكانية اندلاع تظاهرات، و«الاعتداء» على السجّانين. وكان وزير «الأمن القومي» الإسرائيلي المتطرّف، إيتمار بن غفير، قرّر، في أعقاب إجرائه تقييماً خاصاً للوضع مع الإدارة، إغلاق الزنازين، مُهدّداً الأسرى بحرمانهم من حقوقهم الأساسية في حال شرعوا في إضراب أو احتجاجات غاضبة، متوعّداً إيّاهم بـ«التصرّف بحزم» معهم، وإبطال إنجازاتهم التي حقّقوها خلال السنوات الماضية.
في هذا الوقت، لا تزال مدينة القدس التي تركّزت عليها الأنظار في شهر رمضان، في دائرة الخطر، وخصوصاً منها المسجد الأقصى، بعدما جدّدت سلطات الاحتلال فتح معركة مصلّى باب الرحمة، متعمّدةً خلال الأيام الماضية تخريب محتوياته ومحاصرته والسطو بالقوة على تجهيزاته ومنع المصلّين من الاقتراب منه. وإذ يندرج ذلك الاستهداف ضمن مساعي تكريس التقسيم الزماني - المكاني للمسجد، فهو يستند إلى سابقتَين أسّس العدو من خلالهما للهجمة الأخيرة: الأولى عام 2000، عندما منع الأوقاف من إخراج الردم المتبقّي من فتح البوّابات العملاقة للمصلّى المرواني، وهو ما أدّى إلى تكدّسها في المساحات المزروعة بالزيتون في الجهة الشرقية من ساحة الأقصى، وبالتالي إلى هجران تلك الزاوية من ساحة الحرم عبر الزمن، والثانية قرار محكمة الاحتلال إغلاق مبنى باب الرحمة بصفته مقرّاً لـ«لجنة التراث الإسلامي» التي صُنّفت «منظّمة إرهابية». وعلى رغم أن الأوقاف حافظت على عدم اعترافها بالقرار المذكور، إلّا أن المبنى بقي مغلَقاً طوال 16 عاماً، ولم يُفتَح إلّا مرّتَين في كلّ سنة لتقديم اختبارات «ثانوية الأقصى الشرعية»، أو كصالة شرف تُستقبل فيها الوفود الرسمية الخارجية.
وبات ملاحَظاً أن الهجمة الإسرائيلية على مصلّى باب الرحمة تتجدّد في كلّ عام بعد نهاية شهر رمضان، الذي يَجري فيه تكريس استخدام المصلّى واستعادة ارتباطه ببقيّة أجزاء الأقصى، وهو ما يمثّل بذاته عقبة كبرى أمام مخطّطات الاحتلال لعزل «باب الرحمة» وتحويله إلى كنيس يهودي. وإذ يدرك الفلسطينيون طبيعة ما ترمي إليه هذه المخطّطات، فقد تمكّنوا، عام 2022، من إزالة نقطة شرطة الاحتلال عن سطح المصلّى، وفرشوا أرضيّته بطبقة عازلة وسجّادٍ جديد، وركّبوا في جواره ثلّاجاتٍ للمياه مع تمديدات الماء والكهرباء اللازمة. وفي العام الجاري، جدّد المرابطون شبكة الكهرباء المكشوفة والمتهالكة، وقوّوا الإنارة الضعيفة، وعزّزوا المراوح بعدد إضافي، وركّبوا سماعات وُصلت بنظام الصوتيات المركزي للمسجد، لكنّ الاحتلال انقضّ عليهم في ثاني أيام العيد ليخرّب شبكة الكهرباء، ويكسّر المراوح، ويسطو على السماعات وعلى المدافئ والفواصل الخشبية والعديد من التجهيزات.
لقد خاض المقدسيون مواجهة شرسة تمكّنوا في أعقابها من فتح مصلّى باب الرحمة بعد أكثر من 16 عاماً من إغلاقه، وهم يعون اليوم حجم المساعي الإسرائيلية الرامية إلى تهويده، وبالتالي سيفعلون كلّ ما في طاقتهم لمنعها من الوصول إلى مبتغاها، تماماً كما اقتحموا معركة منع البوّابات الإلكترونية ونجحوا فيها. ولعلّ ما يحفّز المقدسيين اليوم، إدراكهم أن المسجد الأقصى بات عنوان تحدٍّ مع الاحتلال، ليس فلسطينياً فحسب وإنّما إقليمياً أيضاً، واستبشارهم بما شهدته المنطقة من أحداث في شهر رمضان عقب الاعتداء على المعتكفين في الأقصى من ردّ موحّد للمقاومة، وهو ما سيحملهم على أن يكونوا أكثر قوة وإصراراً في مواجهة العدو.