ليس المؤبّد، ولا الإعدام الذي تنفّذه أكثر الدول حداثة، هو أصعب ما يواجه الأسرى الفلسطينيين في سجون العدو الإسرائيلي، بل الموت اللانهائي. هذا الأخير هو أحدث أسلوب ابتكرته العقلية الإسرائيلية المسكونة بالإجرام، إمعاناً منها في تعذيب الأسرى، مروراً بذويهم، وليس انتهاءً بشعبهم. طريقةٌ عقابية «فريدة» قضت إلى الآن على 226 أسيراً، استشهدوا إمّا تحت التعذيب، أو نتيجة سياسة الإهمال الطبّي المتعمّد، أو من جرّاء الإضراب عن الطعام الذي لا يستجيب خلاله الاحتلال لمطلب الأسير. لكن الأمور لا تتوقّف عند هذا الحد، فحتى بعد استشهاد الأسير، تقوم سلطات العدو بـ«إعادة تدوير» للتعذيب والعقاب، مبقيةً على جثمانه محتجَزاً في ثلّاجاتها بدرجة حرارة 40 تحت الصفر. وهكذا، تحرمه وعائلته من دفن «لائقٍ»، مُجمِّدة حياة هذه الأخيرة، بجعلها الموت، الذي هو بمثابة الحدّ الأخير للحياة، فراغاً لا نهاية أو قعر له. على أن الأسير الشهيد، الشيخ خضر عدنان، لم يكن أوّل أولئك الذين قضوا في سجون العدو نتيجة الإضراب عن الطعام، تماماً كما لم يكن الفلسطينيون السبّاقين إلى فعل ذلك. فقد قضى روبيرت غيراد ساندز (بوبي ساندز) ورفاقه التسعة، الأعضاء في الجيش الجمهوري الإيرلندي، من جرّاء إضراب مماثل اعتُبر في حينه «مجاعة اختيارية». لكن لم يسبق أن احتجز أيّ احتلال أو استعمار جثامين الأسرى الشهداء في ثلّاجاته، التي تُعدّ نسخة «أكثر حداثة» من مقابر الأرقام، حيث طالما احتُجزت جثامين الشهداء الفلسطينيين للمقايضة عليهم بأسرى إسرائيليين منذ عام 1948.باكورة مَن حُكم عليهم بالموت البطيء، كان الشهيد أنيس دولة، الذي ولد قبل «ولادة» إسرائيل بأربعة أعوام، وانتمى في شبابه إلى حركة القوميين العرب، مشاركاً في العمل الفدائي في إطار «منظّمة التحرير الفلسطينية»، قبل اعتقاله إثر اشتباك مع الجيش الإسرائيلي في مدينة نابلس عام 1968، والحُكم عليه بالسجن أربعة مؤبّدات. في سجن عسقلان، تَعرّف دولة على الشهيد عمر القاسم الذي كان مُنظّراً فكرياً للأسرى، وأعلن خلال سجنه انتماءه إلى «الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين». وفي عام 1980، وبالرغم من مرضٍ أصابَ قلبه، قرّر خوض إضراب عن الطعام مع بقيّة رفاقه في سجنَي عسقلان ونفحة. وفي 31 آب من العام نفسه، أعلنت إدارة سجون الاحتلال استشهاده بعدما أُغمي عليه وسقط داخل ساحة السجن ونُقل إلى العيادة من دون أن يخضع لأيّ تدخّل طبّي. ومنذ ذلك الحين، لا يزال جثمان أنيس مجهول المصير. أمّا الشهيد فارس بارود فلعلّه أوّل الأسرى الذين قضوا نتيجة الإهمال الطبّي المتعمّد؛ فبارود المولود في غزة عام 1969، والمعتقَل عام 1991 إثر تنفيذه عملية عسكرية في مدينة القدس، والمحكوم بالسجن المؤبَّد و35 عاماً، أمضى 15 عاماً كاملةً منها في العزل الانفرادي، خرج بعدها بوضع صحّي صعب، وتركته إدارة السجون يصارع معاناته إلى أن استشهد عام 2019، فيما لا يزال جثمانه محتجَزاً إلى اليوم.
تعدّدت طرائق الشهادة فيما السبب واحد: الاحتلال ولا شيء غيره


وكما بارود ودولة، لا يزال جثمان الأسير الشهيد نصار طقاطقة في ثلّاجات الاحتلال. وطقاطقة، المولود في بلدة بيت فجّار في الضفة الغربية المحتلة، والذي استشهد تحت التعذيب عام 2019 لمّا كان عمره 31 عاماً، اختطفه الاحتلال قبل عرسه ببضعة أسابيع، وأبقى عليه 17 يوماً في التحقيق، حيث تنقّل ما بين زنازين عتصيون والمسكوبية وبيتح تكفا، إلى أن أُعلن استشهاده. وعلى إثر الضغوط التي مورست على إدارة السجون التي ادّعت أنه توفّي نتيجة أزمة قلبية، قَبِلت الأخيرة بتشريح جثمانه الذي ثَبت تعرّضه للتعذيب والعنف حتى الموت. وعن طقاطقة نفسه، قال الشهيد عدنان لـ«إذاعة صوت الأسرى»، حينذاك، إن «ما حصل مع الأسير نصار طقاطقة هو ذاته ما حدث مع الأسير البطل عرفات جرادات الذي قُتل في تحقيق سجن مجدو نتيجة تعرّضه للضرب على يد مَن يُعرفون «بالعصافير»»، واصفاً الجريمة بـ«النكراء»، معتبراً أن «حجمها لم يكن يستدعي لجنة تحقيق لإثبات ما حصل، بل وقفة جدّية وصرخة في وجه العالم والمجتمع الدولي المدّعي مناصرته لحقوق الإنسان». وفيما استشهد الشيخ خضر بأمعاء خاوية، يستمرّ هذا «المجتمع الدولي» عينه في إدارة الأذن الطرشاء للأصوات المنادية بمحاسبة إسرائيل.
وتحت التعذيب الشديد، قضى أيضاً الأسير الشهيد عزيز عويسات، المولود في جبل المكبر في مدينة القدس المحتلّة عام 1975، والذي اعتقلته سلطات الاحتلال عام 2014، متّهمةً إيّاه بتفجير خطّ الغاز الخاص بمستوطنة «أرمون هنتسيف» المقامة على أراضي بلدته. حَكمه الاحتلال بالسجن 30 عاماً، وخلال سجنه في «إيشل»، واجه عويسات السجّانين بأن رشّ الماء المغليّ على أحدهم، لتستدعي إدارة السجون، إثر ذلك، قوات معزَّزة من الجيش والوحدات الخاصة لاعتقاله (من داخل السجن) واقتياده إلى التحقيق، حيث تعرّض لصنوف عديدة من التعذيب الجسدي الوحشي، وتناوب على ضربه عشرة سجّانين كسّروا أسنانه وأضلعه، ما تسبّب له بأزمة قلبية حادّة استشهد على إثرها عام 2018. وقد تمكّن الأسير فراس العمري، الذي التقى بعويسات خلال عملية تنقيل بالبوسطة من معتقَل إلى آخر، من تهريب رسالة روى فيها عزيز التعذيب الذي تعرّض له في «رحلة» التنقيل، قبل أن يقضي نحبه وتحتجز سلطات الاحتلال جثمانه إلى اليوم.
أمّا الأسير الشهيد، بسام السايح، المولود عام 1974 في مدينة نابلس، والذي اعتقله الاحتلال عام 2015 بتهمة التخطيط لعملية «إيتمار» التي قُتل فيها مستوطِن وزوجته، فأصيب داخل المعتقَل بمرض السرطان. لكن إدارة السجون رفضت علاجه، مكتفيةً بنقله إلى عيادة «سجن الرملة» (أو مسلخ الرملة كما يسمّيه الأسرى)، حيث كانت تعطيه المُسكّنات البسيطة فقط. وفي 8 أيلول 2019، استشهد السايح داخل مستشفى «أساف هاروفيه» الذي نُقل إليه من معتقَل الرملة إثر تدهور حالته الصحّية بشكل خطير. كان السايح يمقت «الكيس الأسود» الذي تحفظ فيه إسرائيل الجثامين، وأراد لجثمانه «تدويراً» من نوع آخر يستطيع من خلاله مصارعة العدو حتى بعد موته؛ ولذا، كتب في وصيّته : «أرجو أن أُكرَّم بدفني عند أهلي وبين أبناء شعبي. لا تحرموني من ضمّة أرضي، لعلّ بعض أطفالها يحمل تُربتي ويقذفني في وجه عدوي ويوقف ظلمه ولو لحظات عن شعبي وأرضي». وكحال السايح، قضى الأسرى الشهداء سعدي الغرابلي، وكمال أبو وعر، وسامي العمور، وناصر أبو حميد وغيرهم، على الطريق نفسه، بعدما فتك بأجسادهم مرض السرطان، وتعمّدت إدارة السجون عدم توفير العلاج لهم، إلى أن أعلنت استشهادهم في الأعوام الأخيرة، مُكدّسة جثامينهم إلى جانب رفاقهم الذين تعدّدت طرائق شهادتهم، فيما السبب واحد: الاحتلال، ولا شيء غيره.