يبدو مسار الزيارات المتبادلة بين تل أبيب وواشنطن مزدحماً في هذه الأيّام، إذ لا يكاد يغادر مسؤول أميركي الأراضي المحتلّة، حتى يحلّ مكانه مسؤول آخر. وإنْ كانت وتيرة الزيارات وعناوينها وأهدافها طبيعية في ظلّ تطوّر العلاقات وتناميها، وكذلك تعاظم التحدّيات والتهديدات المشتركة للجانبَين في الإقليم، إلّا أن الأزمة الداخلية الإسرائيلية لا تزال تضغط على جدول أعمال تلك الزيارات وتُزاحم بنودها الاعتيادية، وخاصة أن الولايات المتحدة صارت تخشى تبعات الأزمة المذكورة على مصالحها، كما على مصالح إسرائيل نفسها.آخر الرحلات المعلَنة هي لوزير الشؤون الاستراتيجية في الحكومة الإسرائيلية، رون ديرمر، إلى واشنطن، برفقة مستشار الأمن القومي، تساحي هنغبي، الأسبوع المقبل، للقاء كبار المسؤولين في الإدارة الأميركية. موضوع الرحلة، وفقاً للإعلام العبري، هو التقدير الأحدث بامتلاك إيران القدرة على تخصيب اليورانيوم بما يكفي لصنع قنابل نووية خلال أيام قليلة فحسب، فيما محورها، بحسب المتداول في الولايات المتحدة، هو القلق المتزايد في البيت الأبيض بشأن خطّة الحكومة الإسرائيلية لتعديل النظام القضائي في إسرائيل، والتوتّرات المتزايدة في الضفة الغربية. وبالتوازي، يحلّ وزير الدفاع الأميركي، لويد أوستن، ضيفاً في تل أبيب، ليلتقي رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن يؤاف غلانت.
خلال الشهرَين الماضيَين، حطّمت الزيارات الأميركية لإسرائيل رقماً غير مسبوق، سواء كانت على مستوى المؤسّسة السياسية ورجالات الصفّ الأوّل في الإدارة في واشنطن، أو على مستوى المسؤولين الأمنيين والعسكريين. وقابلت ذلك زياراتٌ إسرائيلية من الصفّ الأوّل أيضاً، سياسياً وأمنياً وعسكرياً، منها ما أُعلن ومنها ما تسرّبت عنه معلومات محدودة، ومنها ما بقي بعيداً عن الإعلام. وفي ذلك، يُشار إلى الآتي:
أوّلاً: لا غرابة في تكاثر الزيارات، وخاصة الأميركية منها، في ظلّ تنامي التهديدات، وانضمام وافد جديد إليها، متمثّل في الانقسام الداخلي الإسرائيلي، والذي قد يكون من شأنه دفْع دولة الاحتلال إلى اتّخاذ قرارات وخطوات، ربّما تكون خطيرة جدّاً بالنسبة إلى الولايات المتحدة.
ثانياً: لا يوجد عنوان وحيد يعلَن عنه سبباً لزيارة أحد المسؤولين الأميركيين أو الإسرائيليين؛ فالمواضيع متعدّدة ومتداخلة، وإنْ ظلّت الأزمة الداخلية الإسرائيلية محوراً رئيساً يستوجب متابعة من نوع خاص، وبالتالي زيادة في وتيرة الزيارات.
لا غرابة في تكاثر الزيارات، وخاصة الأميركية منها، في ظلّ تنامي التهديدات، وانضمام وافد جديد إليها، متمثّل في الانقسام الداخلي الإسرائيلي


ثالثاً: تُلقي الأزمة الداخلية في إسرائيل بظلالها على أكثر من مستوى واتّجاه، سياسياً واجتماعياً، بما من شأنه مفاقمة الانقسام، وحمْل الأميركيين على العمل عن قرب لاستكشاف ما يحدث وكيفية معالجته، وخصوصاً أن دوائر التقدير في الولايات المتحدة لا تستبعد أن يفضي الوضع الحاصل إلى اتّخاذ قرارات قد تكون مضرّة بالمصالح الأميركية، كما الإسرائيلية، سواء تَعلّق ذلك بالساحة الفلسطينية، أو الجبهة الشمالية، أو الشمالية الشرقية مباشرة مع الجانب الإيراني.
رابعاً: لا يلغي الحديث عن أوّلية الصراع الداخلي الإسرائيلي، وجود أهداف أخرى لا تقلّ أهمّية للزيارات المتبادلة، متّصلة بالتهديدات المتعاظمة في الإقليم لمصالح الحليفيَن، والتي باتت تضغط عليهما لإحداث تغيير في مسار مواجهة تلك التهديدات، لا يزال من غير الواضح ما إنْ كان سيبقى تحت سقف الخيارات الاعتيادية، أم سيتجاوزها إلى أخرى متطرّفة، بغضّ النظر عن مدى معقوليّة هذه الأخيرة.
وفي هذا السياق، تُعدّ رحلة رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية، الجنرال مارك ميلي، الجمعة الماضي إلى تل أبيب، واحدة من الزيارات اللافتة التي توجب المتابعة وربط ما بعدها بها، سواء على مستوى الأقوال أو الأفعال، إذ وصف مكتب ميلي الزيارة بأنها جزء من الجهود الأميركية المشتركة مع الجانب الإسرائيلي للبحث في «التحدّيات والفرص الكثيرة التي تواجهها إسرائيل ومنطقة الشرق الأوسط»، في إشارة إلى سياقها الإقليمي الخاص. ومع ذلك، ينبئ الإعلان المتقدّم بحرص واشنطن على أن تبقى ملتصقة بطاولة القرار في تل أبيب، ما يعني أن الجولة لا تنفصل أيضاً عن التطوّرات الداخلية في الكيان.
خامساً: ما يَجدر التنبيه إليه، هو أن تدخّل الراعي يزداد دائماً مع تراجع قدرة الوكيل والحليف الأصغر على اتّخاذ قرارات وإجراءات عقلانية، وهو ما ينطبق على تدخّل الولايات المتحدة الحالي في شؤون إسرائيل الداخلية.
سادساً: وهو الأهمّ، تمرّ إسرائيل بأزمة حرجة وحادّة ومصيرية، ما بعدها لن يكون كما قبلها، بل إنها تُنذر بما هو أسوأ، وفق ما يَجري التحذير منه على لسان كبار المسؤولين في تل أبيب. ولعلّ ذلك يَكفي وحده كي يدفع واشنطن إلى التدخّل، ومحاولة الحدّ من الخسائر الإسرائيلية، ومنْع الوصول إلى حالة احتراب داخلي وفوضى.