غزة | هو طفل صار اسمه بين المبدعين المشهورين قبل الحرب، وحصل على أكثر من جائزة تكريم لمهارته في الرسم، برغم أنه لم يتعد سن الثالثة عشرة. قرر أن يبقى مع ذويه خلال الحرب في منزلهم في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، لأن الشارع لم يصبح آمنا، فجمع أطفالا من أقربائه والحي حوله ليعلمهم الرسم، حتى جاء فجر مجزرة الشجاعية، ما اضطر عائلة الطفل محمد قريقع إلى النزوح هربا بنفسها من الموت العشوائي، لكن الطفل أصر على أن تنزح بعض لوحاته معه إلى مستشفى الشفاء غرب المدينة.
قريقع الذي أنشأ صفحة على «الفايسبوك» وصل عدد المعجبين بها حتى كتابة النص إلى ثلاثين ألفا، عرض جزءا من لوحاته التي هربت معه من الموت والدمار، لكن ريشته لا تزال تقطر باللون الأحمر وهو يرسم بقايا الجثث الملقاة تحت ركام الشجاعية، وصفحته مليئة بالسؤال عنه ليلة المجزرة من فنانين ورسامي كاريكاتير وآخرين، خوفا على أن يكون قد لقي المصير نفسه، لكنه طمأنهم إلى حاله بالرسم مجددا في مكان لجوئهم داخل المستشفى.
وبينما لم يستطع الأهالي أن يأخذوا معهم من منازلهم إلا ما لبسوا من ثياب، أصر محمد على أن يحمل بين ذراعيه حقيبة الألوان ودفتر الرسم. وكان يحاول أن يهرب من ضوضاء أشقائه الصغار والأطفال الذين شُغلوا عن أصوات القصف باللعب والركض داخل حديقة مجمع الشفاء الطبي، التي تحوي مئات النازحين.
يتنصل «العم الصغير» من أبناء أشقائه الذين يتوددون إليه لمشاركتهم اللعب، فيذهب إلى زاوية ما ليسرح بخياله ويسترجع هول المأساة التي حلت على أهالي الشجاعية ليلة العشرين من تموز الماضي، وطحنت المنازل فوق رؤوس ساكنيها، وجعلتها أثرا بعد عين.

ستعود لوحات
محمد معه إلى بيته لتكون ناجية من
الموت والدمار

يقول الطفل الموهوب إن الجريمة التي تفوق فهمه أثرت في فرشاة رسمه وصلبتها كمسمار فوق اللوحة، لأنه لا يخفي أنه عجز في البداية عن توثيق المشهد، لكنه بدأ تدريجيا يقوى على خطّ ملامح الألم في أزقة الشجاعية وشوارعها.
يستدعي محمد قدراته ليقوى على رسم اللوحة التي يقيمها أمامه، ويقول إنه يريد فيها تشكيل الحالة الفلسطينية الغارقة في الدماء، وخصوصا بعدما قارب عدد الشهداء الألفين. أخذ الطفل يرسم التعرجات، بدايةً بقلم الرصاص على اللوحة. وحالما تشكلت اللوحة ظهر فيها منزل قائم وفوقه توجه طائرة حربية صاروخا لتفتته. يقول عن هذا المشهد: «هذا هو الواقع في غزة.. الطائرات لم تتوان لحظة عن دك منازل المواطنين بالصواريخ والقذائف».
توقف عن الرسم قليلا، ثم بدأ يسرد لحظات خروجه مع أهله قائلا، إن الاحتلال أخذ يقصف المواطنين في الحي، مع أنهم كانوا خارجين من منازلهم، ويضيف لـ«الأخبار»: «أصبحت وأمي في جهة، وأبي وبعض إخوتي في جهة ثانية، ثم صرنا نبحث عن بعضنا بعضا أكثر من ساعة تحت القذائف والرصاص».
ويكمل قريقع: «مشينا سيرا على الأقدام مسافة طويلة، حتى وصلنا مجمع الشفاء، ولم نكد نرتاح قليلا حتى هددوا بناية في المجمع بالقصف، فغادرنا بسرعة».
مباشرة استغل الطفل فرصة وصول الكهرباء وصوّر من على هاتفه اللوحة ونشرها على صفحته كاتبا: «بعد النزوح للمرة الثالثة، أكملت الرسم كأن شيئا لم يكن... اكتبوا عنا وانشروا ما يكتب اهل غزة واخبروا العالم اننا صناع حياة»، مؤكدا أنه سيعيد لوحاته معه إلى البيت لتكون هي الأخرى ناجية من الموت. وحظيت صورة محمد بإعجاب المئات في صفحته، لذلك سارع إلى نشر فيديوهات صورها لنفسه، وهو يتحدث عن صمود الناس، كما نشر صورة عن مأساة «أطفال ماتوا وهم نيام»، وكتب معلقا: «ناموا في غزة، واستفاقوا في الجنة».
ويتحدث قريقع عن تجربته الأولى في الرسم، حينما رسم سيدة فلسطينية مضطهدة، ما دفع أخاه الأكبر مالك إلى مساعدته بعرض رسومه على فنانين، ساعدوه على تطوير موهبته. وحصل قبل الحرب على لقب أفضل فنان تشكيلي في مهرجان أقيم في مدينة غزة، لمناسبة اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة، وجاء هذا التكريم بالنسبة إليه في مرحلة جديدة وضعته أمام مسؤولية كبرى.
ويقول محمد إنه يحلم بأن يقدم شيئا أفضل وذا قيمة للقضية الفلسطينية، كما يطمح إلى أن يكون سفيرا لأطفال فلسطين في العالم. الآن هو يستغل أوقات فراغه ليرسم بعض الإصابات التي شاهدها في المستشفى، لكن لوحاته لم تخلُ من بعض الفرح والحياة من أجل إلهاء الصغار من حوله، وإبعادهم عن الخوف، لأن أكثر ما يزعج الأطفال كما يرى «أصوات القصف وتحليق الطائرات».