قال جوزيه ساراماغو ذات يوم «حتى في أسوأ المحن، قد تجد خيراً كافياً يمكّنك من احتمال المحنة». ولذلك هم همسوا في أذن الحياة: سنصبر على المحن والشدائد والابتلاء، ولن ننحني، وسنخرج من تحت الأنقاض أقوياء. لا تهزمنا شدة ولا زلزال خرّب ودمّر وقتل وشرّد، فنحن شعب الجبّارين، ومخيمّاتنا ستبقى عنواناً لاستمرار الحياة وتوالد الأجيال.
رفد خزان الذاكرة من جديد
ما يجري بعد الزلزال المروّع في سوريا وتركيا، سباق مع الزمن، للخروج من فداحة الكارثة الطبيعية وتداعياتها على الصعد كافة، بينما تتواصل الصرخات من تحت الأنقاض والدمار الذي لم يبق ولم يذر في السواد الأعظم من المشهد المأسوي الذي سيبقى في ذاكرة الناس.
«الأخبار» جالت على بعض المناطق التي تضررت بفعل الزلزال في المخيمات الفلسطينية، «الرمل» في اللاذقية، و«حندرات» و«النيرب» في حلب، وسط استمرار جهود الإنقاذ والإغاثة في المحافظات السورية المنكوبة، لإنقاذ من يتربّص بهم الموت تحت الأنقاض، من الجراح والبرد والجوع والعطش، وعادت بشهادات أناس عايشوا الأوقات العصيبة، وهول الكارثة التي لم تنته تداعياتها حتى نشر هذا التحقيق الصحافي.

موت وصرخات تحت الأنقاض
عدنان السيد، نائب قائد لواء القدس ومسؤول مخيم النيرب، روى ما حصل «أجبر كل سكان المخيم على الخروج من بيوتهم بشكل عشوائي، نتيجة الخوف والهلع في ظل الطقس البارد جداً، وهطول الأمطار الغزيرة في مشهد مأسوي، حيث تضرر عدد كبير من البيوت، وتحديداً من الداخل وحدثت تشققات كثيرة، وسقطت بعض البرندات والدربزينات والسواتر والتحويطات لسقوف المنازل، كما سقطت الأحجار من البيوت. وتعرّض مسجد القدس في المخيم لأضرار كبيرة، وقعت المئذنة كاملة، ويبلغ طولها 15 - 20 متراً، إضافة إلى سقوط أسوار عدد من المدارس».
العائلات في المخيم، تلقّت الأضرار إمّا بموت أفراد منها (ثلاثة أطفال في المخيم) أو بخسارة بعض الممتلكات، أو تهتّك في المنازل، وهذا ما يشير إليه السيد: «أدى الزلزال إلى استشهاد طفلتين 5 و6 سنوات، وطفل بعمر 4 سنوات، وإلى إصابة ما بين 500 إلى 600 شخص، 10 بالمئة منهم كانت إصاباتهم صعبة جداً، وتعرّضوا لكسور ورضوض وحالات نفسية صعبة».
يوجد في المخيم مركز طبي مجاني (مركز التداوي الخيري المجاني) يقدم العلاج والأدوية، «توافد إلى هذا المركز التابع للواء القدس الجرحى المصابون بالمئات، وخاصة شريحة المراهقين واليافعين تحديداً من الإناث اللواتي تعرّضن لانهيار عصبي، نتيجة هذا الزلزال الذي يعايشونه لأول مرة».
ما إن بدأت تتكشف الأضرار التي خلفها الزلزال، حتى توزعت لجان الإغاثة، وكل المعنيين في محاولة أن يخرج المخيم بأقل الخسائر، «بعد وقوع الزلزال بثلاثة أيام، بدأنا بالتعاون مع الأهالي في تنظيف الشوارع والساحات والبيوت والجامع، بأدوات وآليات بسيطة من الأوساخ والردم، وكل الأضرار التي نجمت عن الزلزال، بحكم أن جميع الآليات التابعة للبلديات أرسلت إلى مدينة حلب التي سقطت فيها أبنية عدة».
لكن ماذا بعد؟ جهود محلية بذلت بأدوات بسيطة، وتضامن الجميع في مواجهة نتائج الزلزال، بعد امتصاص الصدمة الأولى، والخروج منها، ومن المتطلبات الملحّة الآن توفير المزيد من الأدوية. يؤكد السيد أن «المخيم بحاجة إلى الدواء بشكل عاجل، وخاصة أن المستوصف فيه يقدم الخدمات العلاجية لنحو خمس وعشرين قرية بالجوار».

خراب وأطفال تحت الأنقاض
وسط لجّة الظلام الذي تزيده حلكة البيوت المتضررة في مخيم النيرب، تحدثت لاجئة فلسطينية لـ«الأخبار»، تقول: «الوضع كان كارثياً، وخربت الدنيا، وما توقعنا هيك، في خراب كتير، والبلاكين وقعت وتوفي عدد من الأطفال، وإصابات كتيرة وخوف كبير»، وأضافت: «مخيمنا ضيّق، وعنا عمارات قديمة، وكانت الإصابات كبيرة، وما خرْج يتم إسعاف الناس على مشافي مدينة حلب لأن الوضع في المدينة كارثي، ومع ذلك قدم المستوصف هنا كل الخدمات العلاجية للمصابين والحالات الإسعافية، وكان في قاعات كبيرة لإيواء المنكوبين، وتم تقديم مواد إغاثية لهم، من مأكل وفرشات وأغطية، والحمد لله الوضع الآن في المخيم صار مستقر».

عائلات انتشلت بكاملها
مخيم فلسطيني آخر، باغته الزلزال الذي ولّى تاركاً وراءه المزيد من الضحايا والدمار والخوف. إنه مخيم العائدين في منطقة الرمل بمحافظة اللاذقية على الساحل السوري، ومن بين جنباته تحدّث حسين الزبن أبو فراس لـ«الأخبار» واصفاً ما جرى: «انهار مبنيان، الأول بناء الرنو، والثاني الأمين، الأول مؤلف من أربعة طوابق، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 15 شخصاً بين رجل وامرأة وطفل، بينهم مروان رنو وزوجته وابنته علا وابناها عيسى وآية أبو كف، وأيضاً بشرى وعمران الكردي والأشقاء: سليم ونغم ويزن شحرور، وأيضاً زينب محمد، وهنا أشخاص غير معروفين كانوا ضيوفاً. وتم انتشال أكثر من أحد عشر شخصاً أحياء». يتابع الزبن سرد المشهد المؤلم في المخيم، وكيف وحدت المصيبة جهود الجميع لتجاوزها: «أمّا البناء الثاني (الأمين) فهو حديث التشييد، ومؤلف من أربعة طوابق، أدى انهياره إلى استشهاد محمد شاكوش وزوجته وولديه، إضافة إلى استشهاد أربعة أشخاص من عائلة أخرى. وهناك شاب من سكان المخيم، وبحكم العمل، مقيم في مدينة جبلة، ولا يزال لغاية 10 شباط هو وزوجته وأولاده تحت الأنقاض».
ويوضح الزبن أن بعض المنازل قد تصدعت أيضاً، سواء بفعل الزلزال، أو الهزات الارتدادية في المخيم، إلا أن ما يخفف من وطأة ما حصل تضافر جهود «الجهات المعنية في المحافظة [اللاذقية] والدفاع الوطني وأجهزة الأمن والهلال الأحمر الفلسطيني ومجموعات من جيش التحرير الفلسطيني وفصائل المقاومة الفلسطينية ولواء القدس والأونروا ومؤسسة العرين والمساجد» وذلك لتقديم المساعدات والمواد الإغاثية والإيواء للمنكوبين في المخيم.

وحدة المسار والمصير
ما جرى في مخيمات الفلسطينيين ومحافظتي حلب واللاذقية، ينفطر له القلب، غير أن الناس المكلومين بحثوا عن بارقة حياة في حقول الموت، وأعطوا للجميع أملاً، مثل طاقة نور تتسع لتشمل الكون كله، هذا هو لسان حال الفلسطيني عبد الرحمن صواف من مخيم الرمل، كما هي حال كل الفلسطينيين والسوريين الصامدين في وجه التحديات والمحن والعواصف والزلازل: «سنعيد الحياة إلى المخيمات والبسمة إلى وجوه الجميع وسنستمر في الحياة، فكل ما قام به الجميع من أفراد ومؤسسات وقوى على صعيد الإغاثة أكد أن وحدة الفلسطينيين والسوريين في هذا المصاب الأليم ليست مصادفة ولم ولن تكون مؤقتة، وإنما تعبّر عن وحدة في المسار والمصير».