غزة | على رغم أن حركة التمرّد والانشقاق لازمت مسيرة حركة «فتح» منذ تأسيسها عام 1965، إلّا أن أهداف الانشقاقات ودوافعها بعد رحيل الرئيس ياسر عرفات، أصبحت مغايرة تماماً. إذ من الممكن تفهُّم انشقاق القياديَين أحمد جبريل ويوسف عرابي عن الحركة، عقب مرور عام واحد على انخراطهما في صفوفها، لا سيما أن القائدَين كانا يشكّلان حالات وطنية فاعلة في الساحة. كما أن انشقاق صبري البنا (أبو نضال) عام 1975، كان نتيجة متوقَّعة بعد تمدُّد «فتح» في عدد من العواصم العربية التي سعت إلى احتواء قرارها. غير أن أيّاً من المنشقّين سابقاً، وحتى في مرحلة تقييم ما بعد «الخروج من بيروت» عام 1982، لم يختلف مع الرئيس الراحل على تعامله مع «الثوابت الوطنية». في أوسلو مثلاً، استطاع «الختيار» أن يجمع شمْل مَن تبقّى من «أصوليّي الثورة»، وأَقنعهم برؤيته على رغم ما تضمّنته من تنازل عن 80% من أراضي فلسطين التاريخية.غير أن ثمّة قطبة غامضة في ذلك، يشير إليها كلام مسؤول ملفّ المفاوضات، صائب عريقات، في محاضر التحقيق في وفاة عرفات. يتساءل عريقات مُعاتِباً أبو عمار: «إنهم يسرقونك، جاهزون لخيانتك، مالك حق يا أبو عمار تبقي هؤلاء حولك، أريد أن أفهم لماذا؟». غير أن تساؤلات عريقات لم تلقَ جواباً، فيما يوضح بسام أبو شريف وهو مستشار الراحل، أن الأخير، كان واعياً إلى أبعد مدى بتوازنات مراكز القوى في «فتح» و«منظّمة التحرير»، حيث أسهم فهمه لطريقة تفكير ونفسية بِطانته المحيطة، في حماية الحركة من التفكّك والانشقاق. بتعبير آخر، «أجاد عرفات اللعب مع الأفاعي طويلاً، قبل أن يقضي بلدغة من إحداها».
غير أن التحوّلات التي رافقت ما بعد عرفات في «فتح»، أفضت سريعاً إلى تصدُّع الجسم التنظيمي. بداية الشرخ تسبّب بها فصل عضو «اللجنة المركزية» محمد دحلان عام 2011، حيث ردّ على الإطاحة به بتأسيس تيّار «فتحاوي» مُوازٍ للحركة الأم، حمل اسم «التيّار الإصلاحي الديموقراطي لحركة فتح». شكّل تيّار دحلان واحدة من الحالات الفارقة في تاريخ الانشقاقات «الفتحاوية»؛ إذ استطاع الرجل المموَّل إماراتياً، أن يستقطب إلى جانبه عدداً كبيراً من القيادات التاريخية ونواب المجلس التشريعي، فضلاً عن تشكيل قاعدة جماهيرية تتجاوز حدود قطاع غزة الذي همّشه عباس، تنظيمياً وشعبياً وحكومياً، إلى عدد من مخيّمات الضفة والشتات. خلافاً لعرفات، لم يكن عباس شخصية جامعة، على رغم أن «فتح» كانت منذ «الختيار» حركة الرجل الواحد، إلّا أن النوازع الشخصية لدى الراحل بدت أقلّ حضوراً في التعاطي حتى مع خصومه، فلم تتحوّل «أمّ الجماهير» في عهده إلى «مزرعة العائلة السعيدة» كما هي اليوم.
وإذا استطاعت «فتح»، بوصْفها «قبيلة الشعب الفلسطيني» كما يحلو للبعض تسميتها، غسْل نفسها دائماً من ممارسات السلطة، بشخصيات «فتحاوية» قاتلت بشرف وأضحت ذات رمزية وطنية، مِن مِثل القائد مروان البرغوثي، فإن الأخير أيضاً ضاقت به تلك القبيلة، إذ لم يرتضِ له عباس الترشّح في الانتخابات الرئاسية التي كان من المفترض أن تُعقد عام 2021، وانتهى به الحال إلى تشكيل تآلف مع عضو «اللجنة المركزية» في الحركة ناصر القدوة، الذي فصله عباس أيضاً، بعدما قرّر تشكيل قائمة انتخابية مستقلّة لخوض غمار الانتخابات العامة.
يحق القول، إن الخلافات التي قادت إلى الانشقاقات في عصر عباس، ليست شبيهة بتلك التي طرأت في عهد سلفه. ثمّة مشكلة ليس مع شخص رئيس السلطة الحالي فحسب، إنّما مع الاستراتيجية الوطنية التي اتّبعها في إدارة الصراع مع الاحتلال، تلك التي أسهمت، وفق ما يرى الباحث مجد ضرغام، في تخدير المطالَبة بالحق الفلسطيني، وتعطيل كلّ أشكال النضال الوطني، ما سمح بتمدُّد المشروع الاستيطاني، وفق المأمول الذي أُبرمت «اتفاقية أوسلو» - من وُجهة نظر إسرائيلية - خصّيصاً لأجله. يقول ضرغام لـ«الأخبار»: «أستطيع أن أفترض أن ثمّة طموحاً شخصياً أو حقاً نضالياً سيدفع قادة فتحاويين إلى التمرّد على عباس، الذي يُقصي كلّ مَن هو خارج دائرته المقرَّبة، لكن الانشقاقات الأفقية التي تعبّر عن النقمة الداخلية على فتح والسلطة التي تنسّق أمنياً، في أوساط القاعدة الشعبية للحركة، والتي يشكّل أبناؤها اليوم الحاضنة المقاوِمة في الضفة، هي التي يجب أن نفهم سببها. أبو مازن حوّل الصراع من صراع وطني إلى قتال لأجل تحصيل مزيد من المكتسبات الاقتصادية والرفاه الزائف، الذي يدفع فاتورته بالتنسيق الأمني، وهذا ما لا يَقبله الجمهور الفتحاوي».