رغم الحرب، يسأل الإعلام الإسرائيلي عن مصير الانتفاضة. شاشات التلفزة العبرية تشير إلى أكثر من 372 ألف فلسطيني لا يزالون يقطنون القدس المحتلة بين أحياء شعفاط «قرية شعفاط، مخيم شعفاط»، وبيت حنينا، والبلدة القديمة، إضافة إلى رأس العمود وبيت صفافا وقرى أخرى. منذ عام 1967 هم تحت الاحتلال، ويرزحون تحت سياسات تحرمهم أبسط الحقوق الإنسانية، كما تفرض عليهم التزامات مالية وضريبية أسوة بالإسرائيليين.
تسليط الضوء على حال المقدسيين للقول إن حادثة استشهاد الطفل محمد أبو خضير لن تكون الشرارة الأخيرة التي تشعل البرميل هناك، نظراً إلى تراكم عوامل كثيرة فرضها الاحتلال، وهي قابلة لشحن القدس مجدداً في انتفاضة قريبة.
ومنذ تأسيس السلطة الفلسطينية قبل أكثر من عشرين عاماً، يعاني المقدسيون من فراغ سياسي، وهم يفقدون المرجعية، لأن الأوقاف الإسلامية والمسيحية تحت الحماية الأردنية، وباقي النواحي الأمنية واليومية تحت سيطرة الاحتلال. حتى القرارات السياسية الفلسطينية دائماً مجحفة بحقهم وتعقد من دون مشورتهم.
في المحصلة، أصبح الشارع المقدسي يشعر أنه مهمش وغير موجود أصلاً على الخريطة السياسية الفلسطينية، مع أن المقدسيين هم أول من يدعون إلى وقفات وتظاهرات يتضامنون فيها من جهة مع باقي المدن، ومن جهة أخرى يواجهون بها القرارات الإسرائيلية.
دماء أبو خضير حولت شوارع القدس إلى ساحة حرب، واستمرت الاشتباكات لساعات متواصلة ربطت الليل بالنهار، معيدة إلى الأذهان صوراً كان العالم قد نسيها منذ الانتفاضة الأولى. لم يأت رد الفعل من فراغ أو بصورة عبثية، لكن قتل الفتى بهذه الطريقة كان شعرة قسمت ظهر الموقف. والظاهر جلياً أن الشارع ثار على الاحتلال ومواقف السلطة في آن واحد.
ما يثير الانتباه أن المواجهات طالت كل الأحياء، لكن شرارتها بدأت من أرقى وأغنى أحياء المدينة، وهي شعفاط وبيت حنينا، ما يعتبر سابقة نوعية تدعو إلى التأمل، إضافة إلى أن الشبان هم من المتعلمين والخريجين الجامعيين، ما يضفي على الهبّة صورة مختلفة تدل على وعي سياسي واجتماعي غير مسبوق.
لنعد قليلاً إلى الوراء، قبل استشهاد محمد. ذات ليلة تجمع المستوطنون في تل أبيب بحضور الرئيس الإسرائيلي ورئيس وزرائه. وأثناء التجمع، أغلق المستوطنون المداخل الرئيسية للقدس، ثم بدأت عمليات الانتقام من تكسير وهتافات ضد العمال الفلسطينيين في غربي القدس، وعند حلول الليل كانت أكثر من 12 حادثة قد سجلت وذكرها الإعلام الإسرائيلي، لكنها لم تصل إلى الإعلام العالمي.
بعدها بليلة، وفي ظل تعبئة إعلامية وسياسية على مدى عشرين يوماً كانت أشبه بتعبئة الحكومة النازية، أعلنت الحكومة الإسرائيلية العثور على جثث المستوطنين الثلاثة، بعد أن سبقتها في إعلان الخبر قناة الجزيرة وسرّبت أخباراً عن الجثث ومكان إيجادها.
رغم إقرار جهات كثيرة بأنها كانت عملية أسر انتهت إلى قتل المستوطنين، انشغل الشارع بأسئلة وملاحظات لها علاقة باختفاء منفذي العملية ثم الاقتحامات الإسرائيلية الليلية وتفتيش البيوت، إلى جانب إفراغ الآبار الارتوازية من المياه بحثاً عن المستوطنين، واستهداف عائلات فلسطينية معينة. كلها أسئلة يصعب الإجابة عنها ما دمنا نتتبع الرواية الإسرائيلية التي لم تنشر أي صورة أو فيديو عن المستوطنين الثلاثة بعد القتل.
على طرف آخر، جاءت تصريحات الرئيس الفلسطيني محمود عباس المتعاطفة مع المستوطنين وعائلاتهم متناسية ما يفعله المستوطنون من سرقة الأرض والموارد المائية وحرق المحاصيل الزراعية الفلسطينية، ما وضع القيادة الفلسطينية في خانة ضيقة وأثار الحنق والغضب العارم.
بعد عرض ما سبق، يبقى أن اشتعال الداخل الفلسطيني لم يكن ضمن الحسابات الإسرائيلية التي أخذت تراقب ما يحدث. ومع هذا، ظهر وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي وقوله إنه «لا يرى انتفاضة ثالثة في الأفق». بغض النظر أكانت انتفاضة أم هبّة عارمة، لكنها أظهرت ما لا يمكن إغفاله، وهو تمسك الفلسطيني، أينما كان ومهما اختلفت وجهة نظره السياسية، بكرامته ورغبته في العيش على أرضه بحرية وإنسانية.