الجزائر | عمّقت الظروف التي عاشتها الجزائر في السنوات الثلاث الماضية، أزمة ركود الاستثمار في البلاد، بدءاً من الانتفاضة الشعبية التي أثارت تخوّف المستثمرين من فقدان الاستقرار الأمني والسياسي مستقبلاً، وبالتالي جعل أفق أيّ مشروع استثماري ضبابياً، مروراً بجمود الإدارة بفعل اعتقال أغلب المسؤولين وأهمّ رجال الأعمال في حقبة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ومحاكمتهم وإدانة الكثير منهم بتهم تتعلّق أساساً بمنْح امتيازات غير مستحَقّة لمستثمرين محلّيين أو أجانب، وليس انتهاءً بالأزمة الصحّية وما رافقها من إجراءات حجر وإغلاق للحدود البرّية والجوّية لأشهر، أجّلت أيّ حديث عن الاستثمار إلى حين عودة الأمور إلى طبيعتها. وتكاد جميع الأطراف المعنيّة بالعملية الاقتصادية في الجزائر، بِمَن فيها السلطة، تتّفق على أن أكبر معوّقات الاستثمار في البلاد تتمثّل في ثلاثة: تعدّد التشريعات والقوانين بفعل تعدّد السياسات وعدم استكمال الإصلاحات الاقتصادية؛ الفساد الذي لطالما أثار تخوّف المستثمرين الجزائريين والأجانب معاً؛ ومناخ الاستثمار غير المشجّع، ومن مظاهره تغوّل السوق الموازية، وعدم مواكبة المنظومة المصرفية لمتطلّبات العصر، وسوء تسيير ملفّ العقار الصناعي، وكذلك البيروقراطية وثقل الإجراءات الإدارية.
الاستثمار أولوية
حاولت الحكومات المتعاقبة مواجهة العقبات التي تعترض طريق الاستثمار، بتنظيم لقاءات ومشاورات مع رجال الأعمال والمستثمرين والخبراء الاقتصاديين، تنتهي عادةً بالإعلان عن إطلاق إصلاحات عميقة في القطاع الاقتصادي. غير أن تلك الإصلاحات لا تؤتي ثمارها، إمّا لعدم فاعليتها أو لسوء تطبيقها، ليعود فعل الاستثمار مجدّداً إلى حالة الركود التي كان عليها، وربّما أسوأ. ومنذ الانتخابات الرئاسية في 2019، انشغلت السلطة أوّلاً بالتحكّم في الوضع السياسي، بالنظر إلى أن الحراك الشعبي لم يكن قد وضع أوزاره بعد، واستمرّت فعالياته لأسابيع إضافية، ثمّ بالوضع الصحي بفعل تفشّي فيروس «كورونا». وبانتصاف عام 2022، تفرّغت السلطة للإصلاح الاقتصادي، من خلال خلق ديناميكية جديدة، أهمّ مظاهرها التوجّه نحو إصدار قانون استثمار جديد لسدّ الثغرات القانونية والتنظيمية التي عرقلت المشاريع، وأيضاً دعوة الرئيس عبد المجيد تبون، في تنقّلاته الخارجية، المستثمرين الأجانب إلى الاستثمار، وتكتّل عدد من كنفدراليات أرباب العمل بما يساعد على توضيح رؤية أصحاب المؤسّسات لاقتصاد الجزائر. ولأجل كلّ ذلك، جرى استحداث «التنسيقية الوطنية لأرباب العمل»، المكوَّنة من خمس كنفدراليات هي: «نادي المقاولين والصناعيين – متيجة»، «المنظّمة الوطنية للتنمية الاقتصادية»، «كنفدرالية الصناعيين والمنتجين الجزائريين»، «الكنفدرالية الجزائرية لأرباب العمل - المواطنين»، «الكنفدرالية الوطنية لأرباب العمل الجزائريين».
فعّلت الجزائر أخيراً «ديبلوماسيتها الاقتصادية» لجلب أكبر عدد من المستثمرين الأجانب


إصلاحات هيكلية
يشرح المستشار في التنمية الاقتصادية، ورئيس الديوان السابق لوزارة الرقمنة والإحصائيات، عبد الرحمن هادف، ملامح الديناميكية الاقتصادية الحديثة في البلاد، وتأثيرها على تشجيع الاستثمار المحلّي والأجنبي، موضحاً في تصريح إلى «الأخبار» أن «الجزائر تمرّ بمرحلة تحوّل اقتصادي تجسيداً للالتزامات التي أعلن عنها رئيس الجمهورية والحكومة». غير أن هذه المرحلة تتطلّب، بحسبه، «إصلاحات في النموذج الاقتصادي الذي يؤدّي إلى تغيير المناخ ككلّ، وليس فقط عدداً من القوانين... للوصول إلى نموذج خلّاق ونموّ مستدام لا ظرفي، ليصير للجزائر دور فعّال محلّياً وإقليمياً». ويَعتبر هادف أن من أهمّ تلك الخطوات، إقرار قانون الاستثمار الجديد (ينتظر تمريره في البرلمان بعد مصادقة الحكومة عليه) الذي «يأتي بمقاربة براغماتية ومغايرة تماماً للمقاربة القديمة، والمضيّ في التأسيس لمناخ استثمار جديد، وخلْق بيئة مناسبة للمتعاملين الاقتصاديين الجزائريين والأجانب». ويبيّن أن «من أبرز النقاط الإيجابية في قانون الاستثمار، الإصلاح الهيكلي الذي جرى إطلاقه، والذي يُعتبر فاعلاً في التحوّل إلى اقتصاد أقوى»، فضلاً عن «إعادة النظر في دور المجلس الوطني للاستثمار كهيئة من مهامها وضع ملامح وخيارات الاستثمارات الاستراتيجية»، وكذا «إصلاح المنظومة المالية والبنكية بإعادة النظر في قانون النقد والصرف»، و«دور هيئة أخرى هي «جزائر الاستثمار» التي سيصير لها دور عملياتي، لا إداري كما كان الحال في السابق، ما يعطي نقلة نوعية لمرافقة المستثمرين»، وأيضاً «إنشاء جهة وحيدة تتكفّل بالمستثمرين الأجانب»، ما يبعث إلى هؤلاء، وفق هادف، «برسالة واضحة بنهاية الإجراءات البيروقراطية»، علماً أن «التسهيلات المنتظَر تطبيقها في حركة رؤوس الأموال تُعدّ واحدة من أهم مطالبهم».
على أن القانون الجديد، والذي يمثّل قاطرة الحكومة في النهوض الاقتصادي، لم يمرّ من دون انتقادات، وخاصة من طرف «حزب العمال» (يساري)، الذي اعتبر أن المشروع «يكرّس مواصلة وتعميق التوجّه التصحيري الذي تسبّب في إضعاف الإنتاج الوطني»، و«يقضي على كلّ خاصيات السيادة الاقتصادية للدولة الجزائرية»، و«يفكّك ما تبقّى من صناعة جزائرية من خلال منافسة غير عادلة لصالح بعض المستفيدين من القطاع الخاص والمستثمرين الأجانب».

«الديبلوماسية الاقتصادية»
فعّلت الجزائر، أخيراً، ديبلوماسيتها الاقتصادية لجلب أكبر عدد من المستثمرين الأجانب، والترويج للبلد على أنه وجهة استثمارية لا يستهان بها. وفي هذا الشأن، يقول هادف إن «رئيس الجمهورية يقود قاطرة الترويج للاستثمار، من خلال زياراته لعدد من الدول الصديقة التي يعوّل عليها لأن تكون شريكة للجزائر في مشروع النهوض الاقتصادي». وبلغة الأرقام، يوضح المستشار الاقتصادي أن «السوق الجزائرية تحتلّ في مؤشّر التنافسية العالمية المرتبة 36 من 138 دولة»، مبيّناً أن الجزائر تركّز على الاستثمارات الكبرى، حيث «تتّجه إلى استثمار 10 مليارات دولار في قطاع المناجم، موزّعة ما بين مشروع غار جبيلات بـ7 مليارات دولار، ومشروع فوسفات بأكثر من 3 مليارات دولار»، وكذلك «الصناعات التحويلية للمواد الأولية مثل الحديد والصلب، والمدخلات الفلاحية وزراعة الحبوب، على غرار مشروع في ولاية أدرار مع شركات تركية». ويلفت أيضاً إلى مكانة الجزائر في السوق الأفريقية، ما «يجعل الاستثمارات فيها ذات قيمة مربحة».