على رغم أنه لا يمكن القفز على حالة الجدل التي يعيشها الشارع الغزّي منذ سنوات حول تعريف مصطلح «الانتصار»؛ وذلك بالنظر إلى التكلفة البشرية والمادّية العالية التي خلّفتها الحروب المتتالية، وأيضاً التحكّم الإسرائيلي بمتطلّبات الواقع الإنساني، والذي يعطي العدو هامش تضييق الخناق معيشياً، وتنغيص حياة السكّان في أدقّ تفاصيل حياتهم، ليَظهر كَمَن استطاع تفريغ شعارات المقاومة العالية من مضمونها، إلّا أن أحداً لا يستطيع إغفال جملة من الإنجازات التي حقّقتها معركة «سيف القدس» العام الماضي، وتُواصل المقاومة المراكمة عليها إلى اليوم. في السياسة قبل العسكر، يمكن القول إنّ المقاومة في غزة جَبَرت في حرب أيار 2021، كَسراً أنتجته الصراعات الداخلية والأزمات المعيشية التي ترافقت مع فوز حركة «حماس» في الانتخابات التشريعية عام 2006. فخلال 15 عاماً من الانقسام السياسي وحتى الشعبي، بين جغرافيا البلاد المفتّتة في الضفة والداخل وغزة وحتى الشتات، اشتغلت السياسة الإسرائيلية، المسلّحة بقدرة كبيرة على التحكّم بعوامل صناعة الترف تحت الاحتلال، أو الإفقار حتى في ظلّ الانعتاق منه كما في غزة، على تشكيل «كوتا» جامدة من الهموم المناطقية التي تشغل أصحابها عن التفكير بِمَن سواهم من أبناء الوطن.
في غزة مثلاً، عملت إسرائيل على رفع تكلفة الفعل المقاوم، وتدفيع السكان فاتورة عملية خطف الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط عام 2006، في شكل حربَين مدمّرتَين، أولاهما كانت عام 2008 - 2009، والثانية التي أعقبت اغتيال مهندس صفقة التبادل أحمد الجعبري عام 2012. وحتى عام 2014، شكّل اختراق واقع الحصار المتأزّم، العنوان الذي كانت تبحث فيه المقاومة عن نهاية مشرّفة للحرب التي استمرّت 51 يوماً، عبر تحصيل ميناء بحري ومطار يتغلّب على قهر الجغرافيا، والذي تضاعفت حدّته بعد إسقاط حُكم «الإخوان المسلمين» في الجارة الكبرى للقطاع.
ويتبدّى منجز «سيف القدس» الأكبر، في كونها استطاعت إعادة الاعتبار من جديد إلى الهموم الوطنية الكبرى، وعلى رأسها المدينة المقدّسة. كان إعلان قائد أركان المقاومة في القطاع، محمد الضيف، عن ساعة الصفر لبدء الحرب، من دون أيّ شروط مطلبية لوقفها مِن مِثل فتح المعابر، أو دخول المنحة القطرية، أو حلّ أزمة الكهرباء، أو تسهيل سفر المواطنين، بمثابة إعادة شاملة للصراع الفلسطيني مع الاحتلال إلى مربّعه الأول، حيث استطاعت المقاومة، وعلى رأسها حركة «حماس» التي مورست ضدّها حرب هائلة لكيّ وعيها وتدجينه، أن تُعيد سلاحها إلى وظيفته البكر، المتمثّلة لا في حماية «سلطة المقاومة» التي حاول الاحتلال الإيحاء بأنها مهدَّدة بالإسقاط، بل بمقارعة أهداف المشروع الإسرائيلي الذي يتخّذ من إلهاء الفلسطينيين بأوضاعهم الداخلية ستاراً للتمدّد. وبالعودة إلى جدليّة تحقيق الانتصار، والتي ينبغي أن يُعاد تجليسها في وعي العوام، فإن القدرة على عرقلة مساعي الاستيطان والتهويد، في ظلّ واقع عربي متداعٍ سياسياً، وانشغال دولي عن الصراع، إنّما تمثّل نقطة فارقة يَجدر الانتباه إلى حجمها؛ إذ إنه أوّلاً وأخيراً، لا يمكن القضاء على كيان احتلالي خُلق ليبقى ويتمدّد، بالضربة القاضية، بل إن مراكمة الإنجازات الصغيرة، والمحافظة على حالة المشاغلة ورفع تكلفة بقاء الاحتلال، هي ما يهدّد وجوده وتوسّعه. في السياسة أيضاً، استطاعت معركة «سيف القدس» أن تستنهض ساحات كانت إلى وقت قريب، خارج الاعتبار والاختبار. والحديث هنا ليس عن مدن الضفة ومخيّماتها، إنّما عن الداخل المحتلّ الذي مارست إسرائيل بحقّه كافة أساليب التغييب والأسرلة، فجاءت المعركة لتُعيد اللُحمة الوطنية إلى كلّ هذا المكوّن الذي تفرّقه الجغرافيا والحواجز والظروف الضاغطة.
يتبدّى منجز «سيف القدس» الأكبر، في كونها استطاعت إعادة الاعتبار من جديد إلى الهموم الوطنية الكبرى


أمّا في الميدان، فقد يفي سطر محمود درويش الشعري في توصيفه، في القطاع المحاصَر بحراً وبرّاً وجوّاً، حيث استطاع الفدائي أن «يخلق من جزمة أفقاً». والمفارقة أن تلك «المعجزة» لم تستند، هذه المرّة، إلى أدوات الفعل المقاوم التي واصلت الأذرع العسكرية للفصائل تطويرها منذ الانسحاب الإسرائيلي من غزة عام 2005، والذي حرم المقاوم من فرصة الاشتباك المباشر، وسعت من خلاله إسرائيل إلى تصفير الأهداف بعوائق تكنولوجية ووسائل رقابة وأراضٍ مبسّطة شاسعة المساحة، تحيط بكامل السياج الحدودي الشرقي مع القطاع، ما يحرم المقاومة ليس من الفعل المقاوم فقط، إنّما من النتائج السياسية والوطنية التي يمكن تحقيقها من خلال هذا الفعل. لقد جاءت معركة الثامن والعشرين من رمضان لكي تثبت نجاعة الأدوات المُعدّة بدائيةً مثل الصواريخ، في تحقيق أهداف ذات بُعد استراتيجي وطني كبير. صحيح أن ما يمكن لصاروخ أو لمائة صاروخ محدود الأثر أن يحقّقه في ظلّ نظام التحذير المبكر، الذي يسمح للمستوطنين، منذ انطلاق الصاروخ وحتى قبل لحظة سقوطه، أن يختبئوا بكلّ أريحية في الملاجئ المحصّنة قبل وصوله، هو قدْر لا يُذكر على صعيد الخسائر البشرية وحتى المادّية، لكنه وسيلة استطاعت خلال 11 يوماً من الحرب أن تُحوّل أنظمة الإنذار المبكر، إلى نقمة في مفعولها الضمني. ولعلّه يكفي للتدليل على ذلك القول إن بضعة آلاف من الصواريخ، ذات المديات المتفاوتة، استطاعت فرض حظر التجوّل وتعطيل كافة مظاهر الحياة المدنية والصناعية، من مستوطنات غلاف غزة، وحتى عمق 250 كيلومتراً، والذي دُشّن استهدافه بصاروخ «عياش»، وفُرض فيه حظر جوّي مؤقّت على مطار «رامون».
وفي الضربة الصاروخية التي استهدفت مدينة تل أبيب مساء اليوم الثاني من المعركة (11/5/2021) بـ130 صاروخاً، وهي الضربة غير المسبوقة منذ احتلال فلسطين عام 1948، لم تَعِش تل أبيب وضواحيها خلال الخمس دقائق التي استغرقتها الرشقة، انفجارات صواريخ المقاومة فقط، بل أضيفت إليها انفجارات صواريخ «القبّة الحديدية». فإذا كان الحدّ الأدنى الذي تطلقه «القبّة» لاعتراض الصاروخ الواحد هو صاروخ «تامير»، فإن المنظومة أطلقت 260 صاروخاً من هذا النوع. وبإضافة 130 صاروخاً أطلقتها المقاومة، تكون تل أبيب قد عاشت 390 انفجاراً خلال خمس دقائق، ما بين صواريخ تنفجر في السماء وأخرى تسقط وتصيب أهدافها، وتتسبّب بإصابات وأضرار. كلّ ذلك كان واقعاً جديداً تتعرّض له تل أبيب لأوّل مرّة، وهنا، يتبدى الأثر الذي يخلّفه هذا السلاح الآخذ في التحسّن والتطوّر، كمّاً ونوعاً، ويعيدنا إلى الحديث عن أهمّية ما يحدثه دويّ الانفجار من أثر لناحية تقويض حالة الاستقرار، ورفع تكلفة الاحتلال والبقاء على هذه الأرض.
في الميدان أيضاً، استطاعت المقاومة، من خلال توظيفها الذكيّ لعدد من الوسائل القتالية التقليدية، مثل «الهاون» و«صواريخ 107» قصيرة المدى، والتي استُخدمت بكثافة، تقويض إمكانية استخدام أهمّ أسلحة جيش الاحتلال، وهو سلاح المشاة. إذ وضعت المؤسّسة الأمنية الإسرائيلية، بفعل ذلك، سيناريو التدخّل البرّي خارج الحسابات، ثمّ برز الكورنيت الذي استُخدم على نحو مدروس، ليس في لجم سلاح المشاة، بل في زيادة العبء الأمني في البحث عن نقاط آمنة للتموضع في عمق الشريط الحدودي، بما لا يسمح لأيٍّ من تلك الصواريخ المتأهّبة بالانقضاض على هدفه.