وقادت تعديلات الغنوشي والمكتب التنفيذي لـ«النهضة» إلى إبعاد وجوه تاريخية عن رئاسة قوائم في الانتخابات التشريعية، من أبرزها عبد اللطيف المكي وعبد الحميد الجلاصي. وكان الجلاصي قد استقال من منصبه كنائب لرئيس الحركة عام 2015، قبل فترة قصيرة من عقد المؤتمر العاشر عام 2016. وعلى رغم أنه لم يكشف عن أسبابها آنذاك، إلا أن مقربين منه أرجعوها إلى تعمّق الخلافات بينه وبين الغنوشي والمجموعة المحيطة به. ويقود الجلاصي والمكي والوزير السابق، محمد بن سالم، ما يسمى «تياراً إصلاحياً» داخل «النهضة»، ويُعرف هؤلاء بمعارضتهم لعدد من الخيارات التي تبنّتها الحركة في الأعوام الأخيرة، ومن أبرزها التقارب مع أحزاب محسوبة على النظام السابق وتقديم تنازلات لها. وفي المقابل، يُحسب الأمين العام المستقيل، زياد العذاري، على تيار يدعو إلى انفتاح أكبر وتبنّي سياسات بعيدة عن الأصول الفكرية للحركة، ومن بين أقطابه أيضاً المستشار السياسي السابق للغنوشي، لطفي زيتون، الذي استقال من منصبه نهاية العام الماضي.
يسعى الغنوشي والدائرة المحيطة به إلى الظهور كما لو أنهم يمسكون العصا من المنتصف
بين التيارين، يسعى الغنوشي والدائرة المحيطة به إلى الظهور كما لو أنهم يمسكون العصا من المنتصف، ويحافون بذلك على وحدة الحركة. لكن هذا الدور الذي سعى الرجل إلى تقمّصه، والذي أبقاه على رأس الحركة بعد سقوط نظام زين العابدين بن علي من دون منافسة جدّية، يقارب على الانتهاء بحكم الأمر الواقع؛ إذ يمنعه النظام الداخلي لـ«النهضة» من الترشّح لولاية جديدة. وعلى رغم المانع القانوني، يبدو أن الغنوشي وجد طريقة للبقاء على رأس الحركة لوقت أطول، وهي تمديد موعد المؤتمر المقرّر عقده في أيار/ مايو هذا العام. وعلى خلفية هذا الاحتمال، دعا القيادي في «النهضة»، محمد بن سالم، في تصريحات إعلامية، أمس، الغنوشي، إلى الانسحاب من رئاسة الحركة إن كان حريصاً على وحدتها، وذلك عبر عقد المؤتمر في موعده المحدّد، معتبراً أن الغنوشي يعمل على «إزاحة كلّ طرف معارض له، ومعاقبة كلّ معارضيه داخل الحركة». ورأى أن «الوضع الداخلي للحركة لا يسرّ، وهناك إصرار من قيادتها على ارتكاب الأخطاء».
تنبئ جميع المؤشرات بتصاعد الصراعات داخل «النهضة» في الفترة المقبلة، ما قد يولّد استقالات جديدة. لكن الملاحظ أن المستقيلين من الحركة بصفة نهائية لا يمثلون ثقلاً كبيراً داخلها، فيما القيادات المؤثرة اكتفت بالتنحّي عن مناصبها فقط مع الإبقاء على عضويتها، ما يعكس في آنٍ غضبها من الغنوشي وسياساته واستعدادها لتولّي مسؤوليات أخرى مستقبلاً في حال نجحت في تغيير موازين القوى لمصلحتها. ويمكن تفسير ما تقدّم بتجارب سابقة على غرار استقالة القياديَّين رياض الشعيبي وحمادي الجبالي اللذين لم يحققا نجاحات سياسية تُذكر، على رغم إطلاقهما مشاريع سياسية جديدة، ليكرّس الغنوشي مبدأ أن «النهضة» هي من تعطي وزناً للأفراد وليس العكس. اليوم، يتولّى الغنوشي رئاسة البرلمان، ويسعى إلى القيام بأدوار أكبر من السابق. لكن بموازاة ذلك، يبقى الرجل متحكّماً بصفة كبيرة بقرار «النهضة» ومؤسساتها، وتواجهه مسألة حساسة هي تسليم دفة القيادة إلى الجيل الثاني من «النهضويين». وإذا لم ينجح الرجل في تأجيل المؤتمر، كما يتردّد على لسان قياديين في الحركة، فإنه سيعمل بالتأكيد على تمكين قيادة جديدة ينتقيها من المحيطين به ليضمن تواصل تأثيره داخل التنظيم.