في ندوة نظّمها مجلس العلاقات الخارجية في السادس من الشهر الجاري، قال رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة، جوزيف دانفورد، إن بلاده لديها «اتفاق يسمح لنا بوجود قوات كافية في المنطقة لردع أي هجوم إيراني ضد أميركا أو الأميركيين. لكن بوضوح، ليست لدينا قوة ردع لاعتراض هجمات على شركائنا في المنطقة. يمكنك أن ترى أن السعودية والإمارات تعرّضتا أخيراً لاعتداءات». بعض التعليقات في وسائل الإعلام الخليجية وضعت هذا التصريح، وهو سابق على قصف منشأتي «أرامكو»، ضمن خانة الابتزاز المالي العلني، وهو نهجٌ دشّنه ترامب، ومن غير المدهش أن يلجأ إليه مسؤولون آخرون في الإدارة. ابتزازُ تمارسه الولايات المتحدة حيال حلفائها لحملهم على شراء المزيد من منظومات السلاح الباهظة الأثمان، ولثنيهم عن التوجه نحو دول كالصين وروسيا بحثاً عن مصادر سلاح إضافية، وهو ما بدأ بعضهم يفعله. هذا الاعتبار حاضر من دون ريب لدى ترامب وأعضاء إدارته، نظراً إلى الدور المركزي لعقود السلاح الضخمة في تحريك عجلة الاقتصاد في بلد يحتلّ المرتبة الأولى بين البلدان المصدّرة للأسلحة. وبحسب تقرير صادر عن «معهد استوكهولم لدراسات السلام»، فإن دول الخليج مجتمعة تحتلّ المرتبة الأولى في شراء الأسلحة في الفترة الممتدة بين 2013 و2017. غير أن خلفيات الموقف الأميركي من قضية حماية الحلفاء لا تقتصر على هذا الاعتبار وحده. النقاش في الولايات المتحدة حول جدوى التورط بشكل مباشر في حروب جديدة «دفاعاً عن حلفاء» بات علنياً منذ سنوات طويلة.
التغيّرات في موازين القوى عالمياً أدت إلى تراجع القدرات الرادعة الأميركية
إحدى المساهمات الأخيرة في هذا النقاش هي مقالة مايكل أوهانلون، مدير الأبحاث في برنامج السياسة الخارجية في «معهد بروكنغز»، في «فورين أفيرز»، والتي اختار لها عنواناً لافتاً: «هل ما زالت أميركا تستطيع حماية الحلفاء؟». يعتبر أوهانلون أن استطاعة الولايات المتحدة القيام بذلك منوطة بقدرتها على تجديد قوتها الرادعة، وتكييفها مع وقائع الوضع الدولي الراهن وتحوّلاته. هو يعترف بأن التغييرات الجارية في موازين القوى على صعيد عالمي، بفعل صعود «منافسَين تحريفيَين»، أي روسيا والصين، للولايات المتحدة، قد أدت الى تراجع نسبي في قدراتها الرادعة، التي لا تزال كافية، برأيه، لمنع أي هجوم واسع من قبلهما على دولة حليفة لها. غير أنه يعتقد أن البلدين، أو غيرهما، قد يعتمدان تكتيكات الحرب اللامتوازية «لاختبار التصميم الأميركي»: «ربما تقوم روسيا، كما فعلت في أوكرانيا، بإرسال ما يسمى رجالها الخضر الصغار ــ وهم جنود يرتدون ثياباً عسكرية من دون شارات ــ إلى مدينة صغيرة في شرق أستونيا بحجة الدفاع عن الأقلية الروسية المقيمة فيها». ويورد أيضاً أمثلة عن خطوات مماثلة من الممكن أن تقوم بها الصين تجاه إحدى الجزر المتنازع عليها مع اليابان. في مواجهة مثل هذه التطورات، يقترح أوهانلون بلورة استراتيجية دفاع لا متوازية، لا تعني التخلّي القطعي والنهائي عن اللجوء الكامل إلى القوة العسكرية رداً على فعل محدود، لكنها ترجح أولاً وأساساً تجنب الصدام المباشر مع قوة عظمى أخرى، واعتماد أدوات الحرب الاقتصادية، أي الضغوط والعقوبات الاقتصادية والتجارية، بما فيها في حالة الصين منعها من استيراد النفط من الخليج.
الحرص الأميركي على عدم الدخول في نزاعات طويلة ودامية مع قوى عظمى، أو أخرى متوسطة، وحتى صغيرة وغير دولتية، هو ما يعنينا في طرح أوهانلون. بعد قصف «أرامكو»، سارع وزير الخارجية الأميركي «الصقوري»، مايك بومبيو، إلى اتهام إيران بالمسؤولية عنه. يندرج هذا الاتهام في إطار سعيه إلى الدفع باتجاه المزيد من الضغوط عليها، وصولاً ربما إلى الحرب. لكن، هل سيفضي هذا الاتهام إلى توقّف «الحوثيين» عن استهداف البنى التحتية الاستراتيجية في السعودية طالما استمرّ عدوانها على بلادهم؟ حتى بن رودس، مستشار الرئيس السابق باراك أوباما، علّق على تصريحات بومبيو، التي وصفها بالخطيرة والحمقاء بشكل استثنائي، بالدعوة إلى التمييز بينهم وبين إيران، وبالتذكير بأن السعودية تشنّ عليهم حرباً لا هوادة فيها. ما الذي تستطيعه الولايات المتحدة لـ«حماية» السعودية من «الحوثيين»، وفي ظلّ عدم رغبتها في الدخول في صدام مباشر مع إيران؟ المشاركة في قصفهم و/ أو مساعدة السعودية على القيام بذلك؟ اليمن بلد مدمّر، غير أنه قادر على المضيّ في القتال وفي قصف الأراضي السعودية. الجديد هو أن السعودية، للمرة الأولى في تاريخها، تتعرض لقصف لمنشآتها النفطية قد يستمر ويتصاعد في الأيام والأسابيع المقبلة. هي استخدمت القوات اليمنية لمحاربة الجيش المصري في اليمن، ولم تقصف مصر أراضيها. وكانت عام 1990 المحرّض الأبرز، إلى جانب إسرائيل، على ضرب العراق بحجة دخول قواته إلى الكويت عام 1990، ولم تتعرّض أي من منشآتها لقصف عراقي. ما باشرت به الحركة الحوثية هو سابقة في تاريخ السعودية والمنطقة، ستكون له تبعات سياسية واستراتيجية هائلة في حال عدم توقف العدوان على اليمن. ليس لدى «مدن الملح» الواهنة، كما سمّاها الكاتب والمفكر الكبير عبد الرحمن منيف، طاقة على شن حروب العدوان وتحمّل نتائجها، خصوصاً في زمن الانحدار الأميركي. ربما على حكّامها مراجعة حساباتهم قبل فوات الأوان.