سنة 1978 اعتقل فايز سارة لمدة عامين، لكن التجربة القاسية لم تثنه عن مزاولة السياسة والعمل السري ضد النظام في سوريا. وعندما غزا صدام حسين الكويت، تجرّأ يومها 35 مثقفاً سورياً، على رأسهم سارة، على توقيع بيان يندِّد بمشاركة بلدهم في «حرب تحرير الكويت» على نحو غير مباشر. عندها كانت كلمة بيان بعيداً عن مؤسسات الدولة والحزب الحاكم تعني أن يترحم صاحبها على حياته. بعد ذلك ساهم المعارض والكاتب السوري في إطلاق «إعلان دمشق للتغيير الوطني الديموقراطي».
وذات مرة حوّل مع زملائه مأتم المفكّر الراحل جمال الأتاسي إلى تظاهرة سلمية، في خطوة غير مسبوقة. لم يتوقف طيلة حياته عن زيارة فروع الأمن حتى صار يعتبر نفسه نزيلاً دائماً وضيفاًَ ثقيلاً عليها، وكان من أكثر المتحمسين لمستقبل ديمقراطي وتعددية سياسية تشهدها سوريا بعيداً عن التطرف. لكن كل ذلك لم يكن كافياً ليثبت حسن نية الرجل تجاه بلاده أمام النظام. مع تصاعد أحداث الحراك عام 2011، اعتقل فايز سارة. وما إن أطلق سراحه حتى اعتقل الأمن في ربيع 2012 ولديه حسام وبسام. وما هي إلا فترة وجيزة حتى كتبت لهما بعدها الحرية. لكن وسام سارة (1987/2014) لم يتراجع عن الالتحاق بقافلة والده، إذ وجد نفسه يهتف مع شبان سوريين يطالبون بالحرية. لكن مع انتشار السلاح قرر الشاب العشريني المثابرة على النشاط السلمي والإغاثي المتمثل في تأمين المواد الغذائية والأدوية الضرورية للمناطق المنكوبة. لكن النهاية المأسوية التي حسب لها والده حساباً منذ زمن كانت في انتظار العائلة. بعد اعتقال ثان لوسام دام لمدة شهرين، انتهى بمفارقته الحياة يوم أمس، والرسالة وصلت إلى عائلته قصيرة كالعادة: «عليكم أن تحضروا لتسلّم جثة ابنكم فقد فارق الحياة».
لن يتمكن المعارض السوري من تشييع ابنه أو إلقاء النظرة الأخيرة عليه، وهو الموجود حالياً في إسطنبول. كل ما فعله كان تعليق نعوته على صفحته الشخصية على فايسبوك حيث كتب: «بعد كل ما أصابنا وأصاب شعبنا من قتل واعتقال وتشريد وتدمير وتهجير، أخبروني اليوم أنهم قتلوا وسام تحت التعذيب في فرع الأمن العسكري» ثم أضاف: «انضم وسام الى قافلة شهداء سوريا شاباً في السابعة والعشرين من عمره»، ليشرح في ما بعد عن نشاط ابنه الذي «كان في ثورة السوريين واحداً من شبابها الأوائل، خرج متظاهراً وناشطاً في الإغاثة هو وإخوته ضد الدكتاتورية، مثل كل الراغبين بحياة أفضل توفر الحرية والعدالة والمساواة. كان مناضلاً سلمياً من أجل مستقبل سوريا والسوريين». وبسرعة كبيرة تحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى خيم عزاء بالشاب السوري، وأصدر بعض المعارضين والفنانين السوريين بيانات تضامنية مع عائلة الناشط الراحل.
قبل ذلك، كان عضو الهيئة السياسية في الائتلاف السوري المعارض قد أعلن متأخراً عن اعتقال ابنه، مبرراً سبب تأخيره بالقول «تأخرت كي لا أعطي بعض المغفلين والمغرضين ومحبّي النظام فرصة قول إننا نتاجر بآلامنا، ونستعرضها في وقت يدفع فيه السوريون فواتير لا تحتمل». وأردف بمخاطبة ابنه: «في شهرك الثاني بعيداً عن الشمس في القبو الرطب وسط إجراءات شديدة التوحش عرضة للخطر الشديد، كما كثيرين من أبناء سوريا (..) زوجتك وطفلاك ووالداك وكل أقربائك وأصدقائك في انتظارك».
تعلم فايز سارة عبر 64 عاماً أن يتسلح بخفة ظل آسرة يشهرها في وجه الصعاب التي سوّرت رحلته في الحياة، لكنه في مقابل ذلك كان دائماً يشعر أنه ربما ورّط عائلته، من خلال خياراته الصدامية مع السلطة، في درب أكثر وطأة مما يحتملون. وكأن قلبه كان بوصلته التي ترشده إلى أن الخطر في انتظاره وأنه سيفقد أحد أبنائه.
2 تعليق
التعليقات
-
الصمت المدوّيقلتَ لي: "ليس الآن أوانُ هذا الحديث. هذا الكلام يحرف خطانا عن وجهتنا". لم تخطّئ كلامي جملة وتفصيلا. إنّما حاولتَ أن تشرح ضرورة الانحياز. وأنا أصدّقك، أصدّق نواياك، ووجاهة منطقك، لأنّي أميّزك عن لاعقي الأحذية، وغلمان السلطان، والمذعورين وهما أو عن بيّنة. أخبرتني عن الأولويّات، عن لعبة الوقت والتوقيت، لكنّك عاجز مثلي عن العثور على جواب السؤال: "كيف تخدم هذه الساديّة المتمادية "خطانا نحو وجهتنا" في هذا التوقيت بالذات؟!!". وأنا خشيت أن يسيء الموتى الذبائحُ الأدب، فيرفعوا أصواتهم. خشيت أن يظلّوا -وقد ماتوا- على قيد الحسرة. وأنت تعلم أنّ الحسرة يمكن أن تستحيل غضبا، والغضب نارا، والنار -كما تعلم أيضا- لا تميّز "الوقت المناسب" ولا "العدوّ الجدير بالعداوة"، ولا وقت لديها لمحكمة العدل والإنصاف برويّة وتدبُّر.. وأنا خشيت أن ننسى حين الوصول إلى "ساعة النصر".. أن ننسى الكلام الّذي يكون "أوانه قد جاء"، فأنت تدري أنّ النصر مسكر، والمنتصر مغفور الذنب، مشكور السعي. بينما أنت منشغل بالهمّ الأكبر- وأعلن ثانية أنّي أصدّقك- أرجوك أفسح لي لحظة في زمانك أعلن خوفي وقد ضاقت العبارة حين اتّسعت "المأساة"، فهل تصدّقني؟
-
التعذيب حتى القتلالاعتقال خارج القانون (حتى خارج أكثر القوانين قراقوشية)، إخفاء مصير عشرات الآلاف، التعذيب، تجويع السجناء حتى الموت،التفنن في قتلهم (خارج القانون)، إذلال أهالي المعتقلين واللعب بمشاعرهم وإرهابهم... هذا إذا لم نذكر إلا بعض ما يتعلق بموضوع الاعتقال في سوريا (القصف والبراميل والكيماوي والاغتصابات والمجازر المتنقلة وإطلاق عصابات الشبيحة الطائفيين، و.. و.. و.. إلخ) هل هذا سلوك دولة؟ ألا يستحق فعل ذلك بإنسان واحد أن يسقط العالم كله، فكيف والضحايا مئات الآلاف؟ ألا يدعو للعجب أن يكون أفضل ما يحاجج به مؤيدو هذا النظام أن: انظروا إلى ما يفعله الطرف الآخر؟! هذا بغض النظر عن صحة الادعاءات بـ، ومدى تجاوزات الطرف الآخر. ألا يستحق العجب أن يكون أفضل ما يدافع النظام به عن نفسه أن يذكر العالم بالتساهل والتسامح مع جرائم إسرائيل وأمريكا وغيرهما؟! كيف للسوريين ممن تأذوا خلال السنوات الثلاث الأخيرة (وهم بالملايين) أن يضعوا أيديهم في مستقبل ما بعد الحرب في أيدي سوريين آخرين لم ينططقوا ببنت شفة استنكاراً.. استهجاناً.. انتقاداً فقط، لأكثر جرائم النظام فجاجة وسفوراً؟! نريد لهذه الحرب أن تنتهي. نريد سوريا موحدة. نريد أن نعيد بناء سوريا. نريد ونريد ونريد.. ولكن، هل يريد النظام ما نريد حقاً؟