ما من رجل اختصر مصطلحات الدهاء والفهلوة والمثاقفة والتمثيل والمحازبة و«الحداثة»... كلها في شخص كـ«مام» جلال الطالباني.أبدأ بمثالٍ صغير كوميدي الطابع جرى معي في تموز ٢٠٠٠ في دمشق: كنت أدخل فندق الشام لأقابل الأستاذ محمد فائق، وإذا بطالباني يخرج من الباب الدوّار لأجد ثغره يفترّ عن ابتسامة عريضة لما رآني قبالته فبادلته الابتسامة بضحكةٍ قائلاً: مام جلال! كيفك يا رجل؟ أطلت الغيبة، فعانقني بحرارة وهو يقول: والله الشوق مضاعف يا أخي! وتبادلنا بضع كلمات ثم دلفت إلى الفندق وهمّ هو بالدخول إلى سيارته مغادراً... اللطيف في الحكاية أنّنا لم يسبق أن تقابلنا قبلها، فيما هو يعاملني كصديق قديم سُرّ لرؤيته بعد طول غياب!
مام جلال مثقف كردي تأثر بإبراهيم أحمد في السياسة والحياة - لحدّ اقترانه بابنته هيرو -، وتنابذا مع الملا مصطفى البرازاني في رحاب الحزب الديموقراطي الكردستاني. ومنذ أن عاد الأخير من منفاه السوفياتي، في خريف ١٩٥٨، وحتى انشقا عنه في ١٩٦٤، ثم ليأخذا بصحبتهما مثقفي المدن الكردية في الشمال العراقي، ولا سيّما في الشرق، تاركين له البسطاء والريفيين من كوادر.

عندما كان ثنائي إبراهيم - جلال مع «الملا» في المكتب السياسي للحزب انتُدبا في مهمّة إلى القاهرة مرتين: الأولى إثر انقلاب البعث الأول (٨ شباط ٦٣) سعياً لدعم عبد الناصر مطلبهم: «اللامركزية» لشمال العراق من «حلفائهم» الحكام الجدد، والثانية (أواسط نيسان ٦٣) بمقترح أن تكون جمهورية الوحدة الثلاثية «القادمة» رباعيةً تضم، إلى مصر والعراق وسوريا، قطراً رابعاً: كردستان.
وافقهم، ومحقاً، في الأولى ورفض عرضهم في الثانية... محدداً شمال العراق إقليماً «عالي اللامركزية» داخل القطر العراقي، كسقف أعلى لا يتجاوزه أحد.
ماذا فعل الاثنان إثرها؟ توجّها إلى باريس للقاء ديفيد كيمحي، ضابط الموساد الكبير - بترتيب من داعيتي الانفصال الكردي الشهيرين: كامران بدرخان وعصمت وانلي - وليطلبا منه عون إسرائيل في قتالهم ضد الجيش العراقي في الشمال.
مذّاك والعلاقة بين الكردية السياسية في العراق وإسرائيل تنمو وتزدهر وصولاً إلى توافق شبه تام، ما دام رضا الولايات المتحدة محَقّقاً.
على خلفية ذلك، ومع التطالق من برازاني، أعلن مام جلال «ناصريته» وأصبح يرطن بلسان «قومي عربي» مبين، في واحد من أمكر أدواره التراجيكوميدية وأكثرها إجادة. خلال تلك الفترة (٦٤-٧٥) صار، و«بيشمارغته» الموالية، يتحيّن فرص الصِّدام بين بغداد و«راندوز» ليعرض خدماته على الأولى، ثم يعود ليحني الرأس اجتناباً لقطفه عندما يتصالحان، لبرهة.
كانت لحظة ضعفه الأخطر يوم ١١ آذار ٧٠ عندما وقّع صدام حسين ومصطفى البرزاني اتفاق الحكم الذاتي للشمال. كانت تلك ــ وما زالت ــ المرة الأولى التي يقوم بها بلدٌ فيه مجموعة كردية كبيرة بتجاوز سقف الحكم المحلي واللامركزية إلى الحكم الذاتي.
أعانه في استعادة وزنٍ تبني فصائل المقاومة الفلسطينية له بحجة أنه «التقدمي الثوري المعادي للإقطاع العائلي، والمطالب بحكم ذاتي للشمال الكردي في إطار وحدة العراق». ضاعف من وزنه سحق التمرد البرزاني في آذار ٧٥، على خلفية اتفاق شط العربي بين محمد بهلوي وصدام حسين، وسحب الأول دعمه للتمرد لقاء تناصف الشط؛ إذ نشأ ظرف صارت فيه دمشق، وهي تتوقع تفرغ بغداد لمناوشتها بالمليان، حريصة على امتلاك سلاح مناوشة استباقي هو... مام جلال. كان ذلك مع تأسيس الأخير لـ«الاتحاد الوطني الكردستاني» صيف ٧٥، متكئاً على دمشق والفاكهاني وطرابلس.
ما ضاعف مجدداً من وزنه، وأعاد الحياة لنسل مصطفى البرزاني (إدريس ومسعود، ثم تفرّد الثاني مع مصرع الأول)، كان اشتعال الحرب العراقية ــ الإيرانية في أيلول ٨٠. إذ وجدت طهران فيهما ضالّة تعينها على صدّ الهجوم العراقي عليها لعامين، ثم في شنها الهجوم المضاد لأعوام ستة... وقد كان.
وبرغم الاشتراك في الحرب، لم يجد طالباني مانعاً من تجريب «خيانة» طهران بعقد اتفاق مع بغداد يُحصر فيه وحده حق التكلم بلسان الكرد. كان ذلك في ديسمبر ٨٣، لكن أمده لم يطل إلا شهوراً عاد بعدها إلى حضن طهران، ثم مكث فيه بشكلٍ أو بآخر حتى يومنا هذا، ودون أن يمنعه ذلك من صدر واشنطن مغذّياً.
مع توقف تلك الحرب صيف ٨٨، وهزم الجيش العراقي للتمرد الكردي المسلح في حملة الأنفال، بدا وكأن مسعود ــ جلال قد لقيا مصير مصطفى في ربيع ٧٥. من منحهما حظ القيامة من نشور، كان صدام حسين نفسه وغزوه الكويت في آب ٩٠.
وكما كانت الولايات المتحدة من أذِن لطهران وتل أبيب بعون التمرد البرزاني، منذ مطالع الستينيات وحتى أواسط السبعينيات، كانت ذاتها، وبذاتها هذه المرة، من أشعل أوار تمرد أوسع عند أول التسعينيات حتى يكون أحد أقوى أوراقها «العراقية» في أعقاب حربها على العراق. فما إن حلّت الهزيمة بالجيش العراقي في مسرح الكويت إلا وهبّت «بيشمارغا» الكرد - بفرعيها: البرزاني في الغرب والوسط، وطالباني في الشرق - تمتشق السلاح وتستولي به على كامل الشمال، بل وحتى كركوك.
استعاد الجيش توازنه بعد أسبوعين من الهزيمة ليثب إلى الشمال ويعيد سيطرته عليه، ولتفرّ «البيشمارغا» شرقاً وغرباً، فيما جحافل المدنيين الهاربين (زهاء ربع مليون) تهيم على وجوهها عابرةً الحدود شمالاً إلى تركيا، من فرط خشيةٍ من «حلبجة» ثانية.
كانت تلك لحظة «امتلاك» واشنطن العقل والفؤاد الكرديين معاً، منذ تاريخ إعادة الفارّين إلى مناطقهم عبر حملة «تزويد العون»، وإقامة منطقة حظر جوي شمال خط ٣٦، وتأسيس كيان كردي في إقليم الحكم الذاتي جهّزته بالسلاح والمال والخبرة... وإلى الآن؛ وبها مسحت أثَر «خيانة» واشنطن للملّا في ربيع ٧٥، التي انتهت به لاجئاً مريضاً بالسرطان في بوسطن، ثم ميّتاً عام ٧٩.
لم يمنع ذلك كلاً من مسعود وجلال أن يركضا إلى بغداد، في نيسان ٩١، طلباً لمرضاة صدام، حتى وهو في عزّ هزيمته... وكان مشهدهما وهما يقبّلان صدره وينحنيان أمامه شاهداً على نفاقٍ سُجّل في كتاب غينيس سابقةً.
مكث الاثنان شهوراً خمسة في فندق الرشيد يفاوضان الجانب العراقي على اتفاق حكم ذاتي «موسع»؛ وفعلاً وُقّع الاتفاق في آب ٩١، بالأحرف الأولى، وطلب الاثنان العودة إلى الشمال لإقناع كادراتهما به ثم العودة لإبرامه قريباً... لكنهما خرجا ولم يعودا، لأن واشنطن - ببساطة - نهتهما عنه، ونقطة.
خرج الاثنان إلى حرب أهلية طاحنة عام ٩٤، ذهب ضحيتها ثلاثة آلاف كردي وامتدت لأعوام ثلاثة، حقّق فيها «المام» فوزاً شبه مؤزّر على غريمه مسعود، مؤيداً بطهران... فما كان من الأخير ــ في آب ٩٦ ــ إلا الاستعانة ببغداد نصيراً ومنقذاً، وقد كان.
صالحتهما مادلين أولبرايت في خريف ٩٨، توطئة لقادم دورٍ في الاستيلاء على العراق. وفعلاً، فقد كانت «بيشمارغة» برازاني+طالباني= طرازاني أهم أداة محلية لقوات الغزو الأميركي في وضع اليد على الشمال العراقي بديلاً من قواتها المباشرة، التي حجبها التمنع التركي عن القدوم عبر الأراضي التركية في نيسان 2003.
طوال الفترة الفاصلة بين 75 و2003 صكّ طالباني شعار «الديموقراطية للعراق، والحكم الذاتي لكردستان»، ليستبدله إثر الاحتلال بشعار «الفدرالية العراقية»، وفي الحالتين سبيلاً موصلاً - بطريقةٍ بورقيبية - إلى الانفصال التام عن العراق.
ما بين 2003 وسقوطه مريضاً في 2012 كان الرجل مالئ الدنيا وشاغل الناس، حدِّ أن تسنّم رئاسة العراق كله متزيناً بسابقته «العروبية» ومزنراً بأصرته الإيرانية وملثّماً بشماغه الأميركي.
عرف مام جلال متى يغيب عن الساحة؛ إذ حزبه في انحلال بين هيرو وخصومها، و«كوران» سرقت منه خير لحمه، ومسعود يلعب «روليتاً» قد يودي بالشمال كله إلى وادي الضياع.
لابس القبعات العدّة، وصاحب الألسن العذبة، ومتعدد الأقنعة السوداء، رحل قبل أن يشهد غروب «بيافرا» الكرد: كم هو محظوظ هذا الرجل... في حياته وفي مماته.