تحمل اناستاسيا بضائعها يومياً من بيتها الكائن في حيّ المزة في مدينة دمشق، وتمضي باتجاه ساحة المحافظة، وسط العاصمة، لتتجه بذلك إلى عملها، حالها حال الكثير من الدمشقيين. «أنا أصلاً سورية» هكذا تتحدث بلهجة مكسرة.
تجلس اناستاسيا مع رفيقاتها على الرصيف المقابل لمبنى وزارة الصناعة: «هي أول مرة بتجي لعندي» هكذا تقول في وجه كل غريب يزورها للمرة الأولى. تفرش النسوة الآتيات من روسيا البيضاء بضائعهن على الطريق أو يعلّقنها على الحائط بطريقة غير قانونية حيث ما من ترخيص يسمح بانتشار «البسطات العشوائية» إلا أن البلدية تغض النظر عنها. والبضائع عبارة عن بعض الألبسة المستوردة تارةً من أوروبا وتارة أخرى من تركيا.
تجتمع النسوة الأربع كلّ صباح، عدا يوم الجمعة، عند الزاوية المقابلة لمبنى وزارة الصناعة، قُربَ فندق الشام الشهير ليبدأن رحلة العمل والبحث عن لقمة العيش. يصنفن البضائع من الأقل سعراً إلى الأعلى، وتشتهر بضائعهن بين سكان العاصمة بأنها أقل سعراً مقارنة بالأسواق القريبة كسوق الحمرا والشعلان.
عرفهن سكان دمشق جيداً وحفظوا أماكنهن المتعددة حتى صار لهن زبائن خاصون. تقول هدى، الطالبة في جامعة دمشق: «ما بعرف اشتري غير من هون، أسعار رخيصة... ونفسيات لطيفة». وتضيف: «كنت صغيرة وجارة ستي كان اسمها فيرونيكا. كانت تجيب ملابس أجنبية ذات جودة عالية وأسعار مناسبة، وتعرضها بالشارع مع مجموعة من النساء من وقتها وأنا ما بشتري غير منهن».
تطبعت اناساستيا الآتية من روسيا البيضاء بالكثير من أطباع السوريين حتى صارت تسمع فيروز كلّ صباح وهي ترتشف فنجان قهوتها. هذا ما يخبرنا به صوت المسجلة التي تضعها بجانبها. هي أتت إلى سوريا منذ 10 سنوات مع صديقتها المتزوجة برجل سوري. تقول في حديثها للأخبار: «سوريا فتحت لي نافذة جديدة على الحياة وضمتني إليها بكل حنان حتى صرت أشعر بأني جزء منها»، لكن ماذا عن قذائف الهاون وأصوات الحرب المخيفة؟ تجيب: «ما في شي بخوف قد الفقر. وقت تنزل قذيفة منتخبى بمحل قريب».
لم تنقطع العلاقات السورية البيلاروسية، بل عملت الحكومتين على تقويتها وتوثيقها خلال الخمس سنوات الماضية، إلّا أن خطورة العيش في دمشق دفع سفارة روسيا البيضاء قبل عاميّن إلى الاعلان عن مساعدة كل من يرغب السفر. رفضن النسوة البيلاروسيات الاقتراح وأصررن على البقاء في العاصمة التي بِتن يعتبرنها موطنهن الأصلي. «بيلاروسيا دولة متواضعة جداً مقارنة بجمالها الآخذ»، تقول آناستاسيا، لتضيف رفيقتها الجالسة على كرسي بلاستيكي وتقوم بإخراج الملابس من الأكياس وتعليقها على الحائط: «بالشام في شغل كتير. أما بيلاروسيا، فكنّا نتعذب كتير لنلاقي شغل ومستحيل نلاقي»، تقول إيلينا. وتضيف: «لهذا السبب ما بترك سوريا لو بدها تشعل فوقها حرب عالمية ثالثة».
خلال سنوات الحرب الخمس، خلت شوارع دمشق من الزوار الأجانب أو المقيمين وهي التي عرفت الكثيرين منهم. غادرها الجميع في فترة الحرب إذ رأت سوريا من أخطر المناطق في العالم. فصار غريباً على سكان العاصمة أن يشهدوا أجنبياً في شوارعهم المنكوبة: «غريبين فعلاً إذا أنا وكتار عم نفكر نسافر. ما عم أفهم ليش هنّي بقيانين هون»، تقول هبة الواقفة أمام إحدى بسطات النسوة.
بدأت هذه المهنة في الظهور منذ حوالى الـ 20 عاماً عندما انفصلت بيلاروسيا عن الاتحاد السوفياتي. وراحت تنتشر في شوارع خلال الـ 10 سنوات الأخيرة، إذ لم تؤثر الحرب عليها بشيء وصارت جزءاً من ذاكرة دمشق. «الغريب في قصة النسوة البيلاروسيات أنهن لم يغادرن دمشق خلال الحرب وبقين في أماكنهن التي يتخذونها من قبل»، هذا ما تقوله يارا، وهي واحدة من الزبونات اللواتي اعتدن أن يشترين من اناستاسيا ورفيقاتها.