عاد كل الشمال السوري إلى الغليان بعد اشتباكات الحسكة الدامية و«الانقضاض» على جرابلس الذي يُحضَّر له تُركياً وكردياً. وإذا ما أضفنا «معركة حلب» ذات الارتدادات الإقليمية والدولية، فإن لقنبلة الحسكة التي انفجرت هذه المرة أبعاداً جديدة مختلفة عن المناوشات التي اعتادتها المدينة في الأشهر السابقة.فهذه المرّة، كان كلّ من الجيش السوري و«الوحدات» الكردية يبعثون مع صواريخهم الرسائل السياسية إلى الداخل والخارج. فالأكراد المستشعرون بضغط كبير إزاء التفاهمات السورية ــ التركية ــ الروسية يعملون على تأكيد حضورهم الأساسي في الحسكة وأنهم «ليسوا لقمة سائغة» تُؤكل عند أول اتفاق بين «الحيتان». أمّا الجانب السوري، فيعمل على تأكيد ثوابته ــ بالنار هذه المرة ــ بأنّه لن يتخلى عن أي منطقة شمالاً لمشاريع تقسيمية أو تحت ضغط ابتزاز لتقديم تنازلات.
في المحصلة، جاءت الأجواء الإقليمية لتخيّم على ردود الفعل في الحسكة، ولعلّ تركيا أبرز المستفيدين من «رسالة» الجيش السوري غير المباشرة التي وصفت المقاتلين الأكراد بعناصر «حزب العمال الكردستاني الانفصالي»، وبمواصلة حضورها في الميدان عبر تحضيرها لدخول مسلحين محسوبين عليها تابعين لـ«الجيش الحر» من أراضيها إلى مدينة جرابلس لكسب السباق أمام «قوات سوريا الديموقراطية»، وكسر عملية الوصل الجغرافي الكردي المتواصل من ريفي الحسكة والرقة إلى ريف حلب. وبذلك نكون لأول مرّة أمام سدّ حقيقي أمام عملية دمج «الكانتونات» الكردية التي بلغت ذروتها مع تثبيت السيطرة على عين العرب، ثم العبور غرب نهر الفرات والسيطرة على منبج والتوسّع الحالي في ريفها لتلامس مدينة الباب. وبمجرّد تثبيت حلفاء الأتراك السيطرة على جرابلس والعمل منفردين على تحرير شريطهم الحدودي، لا يتبقى أمام الأكراد سوى معركة «الرقة»، وحينها قد تكون معركة من دون مردود سياسي كبير ولها حساباتها الإقليمية والدولية.
وساهمت تركيا أخيراً، بمساعدة فصائل من «الحر» في السيطرة على بلدة الراعي في ريف حلب الشمالي لتبقى مسافة من 55 كلم بين جرابلس غرب نهر الفرات وحدود الراعي على الحدود، مانعة أي تمدّد كردي بين عين العرب (كوباني) وعفرين.
واشنطن، حليفة الأكراد الأولى لم تعلّق على تسريبات «معركة جرابلس»، وهي التي أمّنت ولا تزال الغطاء الجوي والاستخباري والقوات الخاصة لعمليات «قوات سوريا الديموقراطية» في منبج «وما بعدها». لكنها صعّدت من لهجتها التحذيرية تجاه قصف الجيش السوري مواقع كردية في الحسكة، أي على بعد كيلومترات من تمركز قواتها. وحذّر قائد القوات في العراق وسوريا ستيفين تاونسيند، موسكو ودمشق من أن «الجيش الأميركي لن يتوانى عن حماية قواته الخاصة إذا ما تعرضت مواقعها للقصف الجوي أو المدفعي». وأضاف: «لقد أبلغنا العسكريين الروس بمواقع تمركزنا، وهم بدورهم أكدوا لنا أنهم أخطروا السوريين بذلك».
هذا التحذير المتكرّر غير المقرون بأي رد فعل حتى الآن، سبقه تأكيد الناطق الرسمي باسم البنتاغون جيف ديفيس، أن «التحالف ضد داعش» أرسل طائراته إلى الحسكة لحماية القوات الخاصة التابعة له، بعدما صارت قواته في مرمى نيران الطائرات السورية.
بقاء الدولة السورية في مدينة الحسكة هو قرار سيادي وحتمي

خرق الاتفاق

وفي تفاصيل معركة الحسكة، عادت الاشتباكات إلى المدينة بعد خرقها من جانب القوات الكردية فجر أمس. يأتي ذلك، بعد هدوء نسبي عاشته المدينة بعد خمسة أيام من الاشتباكات كان أعنفها فجر أمس، أدت إلى انسحاب «الدفاع الوطني» من الجزء الجنوبي لحي النشوة الشرقية، ترافق ذلك مع انسحابات للجيش السوري من مجمع الدوائر الحكومية جنوب شرق حي غويران، ودوار الجندي المجهول تحت ضغط القصف العنيف لـ«الوحدات» و«الأسايش» الكردية. انسحاب الجيش و«الدفاع الوطني» ترافق مع ضخ إعلامي كبير بأن المدينة خرجت عن سيطرة الحكومة السورية، وسيطرت عليها «الوحدات» بشكل كامل، وهو ما ترافق مع حركة نزوح كبيرة للمدنيين من حيي غويران والليلية. تسارع الأحداث أدّى الى تدخل مباشر من القيادة الأمنية والعسكرية السورية في دمشق، والتي طلبت من قيادة «الوحدات» إعادة كل النقاط التي سيطرت عليها، والدخول في مفاوضات عن طريق جنرال روسي كان قد وصل إلى مطار القامشلي قبل يومين، قادماً من مطار حميميم. المداولات السورية ــ الكردية ــ الروسية أفضت إلى التوصل إلى وقف إطلاق نار عصر أمس، مع إعلان لتهدئة على أساس عدة بنود هي: وقف فوري لكل الأعمال القتالية في المدينة، إجلاء الشهداء والجرحى إلى مدينة القامشلي، وإعادة النقاط إلى ما كانت عليه سابقاً. الاتفاق دخل حيز التنفيذ في الساعة الخامسة من مساء أمس، باستثناء احتفاظ «الوحدات» بنقاطها في الجزء الجنوبي لحي النشوة الشرقية، والتي كانت مراكز لـ«الدفاع الوطني» مع احتفاظ الجيش بنقطتين لـ«الوحدات» في الحي ذاته. «الاتفاق» الذي لم يعترف به الجانب الكردي بعد، تزامن مع وصول وفد روسي يرافقه ضابط من مكتب الأمن الوطني، وضباط من قيادة «الدفاع الوطني» للاجتماع مع القيادات الكردية لإنهاء حالة الاحتقان، وإعادة الاستقرار إلى المدينة. مصدر رسمي سوري أكد لـ«الأخبار» أن «بقاء الدولة السورية بمؤسساتها في مدينة الحسكة هو قرار سيادي وحتمي»، مضيفاً «أن ممثلي الوحدات الكردية طالبوا بمسائل تمس السيادة الوطنية، وأن هناك من أوهم الكرد بأن هناك اتفاقاً مع الأتراك لإنهائهم، وهو أمر مناف للواقع». بدوره، قال قيادي كردي لـ«الأخبار» إنّ «الحكومة السورية افتعلت مشاكل الحسكة بهدف إظهار حسن النية لإردوغان، تمهيداً لإعادة العلاقات بين الدولتين»، مضيفاً «أن الكرد لن يقبلوا أن يكون هذا التقارب على حساب وجودهم وتضحياتهم ومشروعهم الفدرالي في المنطقة». وأشار إلى أن «لقاءات ستجمعهم مع الروس لحل الخلاف الحاصل في مدينة الحسكة»، مرجحاً «أن تذهب الأمور نحو التهدئة». ويقطن مدينة الحسكة قرابة 500 ألف مدني معظمهم من العشائر العربية، مع تركز الأكراد في الأحياء الشمالية، ويسيطر الجيش على ثلث المدينة.
الاشتباكات التي دارت خلال الأيام الخمسة الفائتة لم تكن الأولى من نوعها، فعادة ما تشهد المدينة اشتباكات مماثلة في فترات متقطعة، غالباً ما تنتهي باجتماع بين الطرفين يعيد الأمور إلى نصابها. إلا أن محافظ الحسكة محمد زعّال العلي، يقول لـ«الأخبار» إنهم «كممثلين للحكومة السورية فوجئوا بحجم المطالب، والتدخّل حتى بعلاقة الدولة مع موظفيها، والالتحاق بصفوف الجيش»، بعد الاجتماع الذي يعقد عادة بعد كل توتر بين الطرفين.
الجنرال الروسي الموجود في القامشلي، بحسب مصادر مطلعة على اجتماعاته مع الأكراد، قال إنه «نصحهم بالتهدئة، وقدم ضمانات بأنهم سيكونون جزءاً من أي حوار سياسي قادم». إلا أن الاكراد لم يصدروا أي بيان يؤكد حصول الهدنة التي سارت عملياً على الأرض وإعادة مواقع للجيش. لكن المعطيات في الحسكة تفيد بأن لا نية كردية للسيطرة الكاملة على المحافظة لاعتبارات عدة أهمها عدم تثبيت تهمة الانفصال والحاجة إلى خدمات الدولة السورية ولا سيما المتعلقة بالوثائق الرسمية، بالإضافة الى أن بقاء الدولة يوسع أفق أي تفاوض مستقبلي كردي ــ سوري حول شكل المنطقة، كما أن مطار القامشلي يعتبر المنفذ الوحيد للمحافظة أمام الحصار البري المفروض من «داعش» على المدينة. لكن هذه العوامل قد لا تمنع انفجاراً كُردياً كبيراً في المنطقة إذا ما استشعر الأكراد بخطر داهم يتعدّى «تقليم الأظافر» في الحسكة.

جرابلس

وفي جبهة ثانية قد تسخن قريباً، حذّرت القيادة العامة لـ«المجلس العسكري لجرابلس وريفها» التابع لـ«قوات سورية الديموقراطية»، في بيان، «السلطات التركية من مغبة ممارساتها العدائية ضد الأراضي السورية ومكوناتها وخاصة في منطقة جرابلس». وأكدت «أنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي إزاء هذه التصرفات العدوانية»، داعياً «التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة إلى الالتزام بتعهداتها لحماية منطقتنا من تدخلات الجيش التركي ومحاولاته بصورة مباشرة لاحتلال الأراضي السورية».
يأتي هذا البيان، إثر تواصل المعلومات الواردة من الداخل التركي حيث يتحضّر مئات من المقاتلين لبدء عملية جرابلس، وهي آخر بلدة مهمة يسيطر عليها «داعش» على حدود سوريا مع تركيا، وتقع على بعد 30 كيلومتراً شمالي منبج.