في تموز عام ١٩٩٦، التقى رئيس الحكومة الإسرائيلية المنتخب حديثاً بعد اغتيال إسحاق رابين، بنيامين نتنياهو، بالرئيس الأميركي آنذاك، بيل كلينتون. خلال اللقاء، طرح نتنياهو وجهة نظره حول العملية السياسية مع الفلسطينيين، قائلاً للجانب الأميركي إن العرب لا يفهمون سوى لغة القوة، لكنه مع ذلك سيلتزم اتفاقية أوسلو، لأن «حكومة إسرائيلية منتخبة ديموقراطياً (حكومة رابين) وقعت عليه». بعد انتهاء اللقاء التعارفي بين الرجلين وفريق عملهما، عبّر كلينتون عن انطباعه عن نتنياهو قائلاً: «يظن نفسه القوة العظمى ونحن هنا طوع بنانه». في ذلك الزمن، سعت الإدارة الأميركية ووضعت ثِقلها، للارتقاء باتفاقية أوسلو من مجرد "إعلان مبادئ"، إلى اتفاق تسوية شامل ودائم مع الفلسطينيين أولاً، ثم باقي الدول العربية. حينذاك، سعت إدارة كلينتون إلى إقناع حكومة نتنياهو بتوجهها هذا، معتبرة أن إحلال السلام سينعكس إيجاباً على الكيان الإسرائيلي، والمحيط العربي العدائي، آنذاك، سينفتح وسيتقبل وجود إسرائيل، وأن الولايات المتحدة ستقنع العرب بذلك من خلال تقديم محفزات ومشاريع اقتصادية (إنشاء مشاريع على حدود فلسطين المحتلة يديرها عرب وإسرائيليون، وهي مشاريع شبيهة بتلك الموجودة بين الكوريتين الشمالية والجنوبية).
برغم الضغوط والإغراءات الأميركية لإسرائيل، فإن نتنياهو الرافض لأوسلو (فاز برئاسة حزب «الليكود» عام ١٩٩٣ بعد رفضه ومحاربته فكرة توقيع إعلان المبادئ)، تمكن من التنصل وقابل الضغوط الأميركية بمزيد من التشدد، بل عند وصوله إلى الحكم أمر ببناء أكبر تجمع استيطاني في بيت ساحور في بيت لحم.
بعد فضيحة كلينتون الجنسية مع مساعدته مونيكا لوينسكي، ومسار عمليات فدائية فلسطينية تصاعدية، ازدادت الضغوط الأميركية على نتنياهو، وسعت الإدارة الأميركية إلى إجبار نتنياهو على توقيع «اتفاقية الخليل» (نصت على أن يعيد الجيش الإسرائيلي انتشاره والانسحاب من ١٣٪ من مساحة الضفة المحتلة)، وذلك لإشغال الرأي العام بالإنجاز الرئاسي الأميركي وللتأكيد أن فضيحة كلينتون لم تشغله عن العملية السلمية. واجه "بيبي" مجدداً تلك الضغوط، رافضاً الانسحاب من ١٣٪ من الضفة، وقال لمبعوث الولايات المتحدة إلى المنطقة، دنيس روس، إن أقصى ما يمكنه الانسحاب منه هو ١٢٪ من الأراضي فقط!
بعد تقديم نتنياهو عرضه، عاد للتفاوض مع الفلسطينيين، وصار سقف التفاوض طبيعة الأراضي التي ينوي الانسحاب منها، مؤكداً أنه بعد مراجعة الخرائط والجيش لن يستطيع الانسحاب إلا من ١٠٪. في المقابل، رمى رئيس السلطة حالياً والمفاوض حينذاك، محمود عباس، طوق النجاة لنتنياهو، مقترحاً أن تكون الـ٣٪ الباقية من الأرض، هي من «محميات طبيعية وطرقات فلسطينية»، وبذلك يكون نتنياهو قد انسحب من ١٠٪ التي يريدها وحصل الفلسطينيون على الـ١٣٪ التي يطالبون بها. راقت الفكرة الجميع، أنقذ عباس نتنياهو من ورطته أمام الأميركيين. برغم ذلك، ماطلت الحكومة الإسرائيلية في توقيع الاتفاقية، ثم أجبرت تحت وطأة العمليات الفدائية، التي استغلها الرئيس الشهيد ياسر عرفات في التفاوض، على التوقيع.
بعد مرور ٢٠ عاماً على هذه الحادثة، نتنياهو الذي رفض الخضوع للإملاءات الأميركية إيماناً منه بـ«القضية» التي يحملها، هو الرجل نفسه اليوم. لم يتغيّر ولم تزده الأيام مرونة، بل ازداد وحكومته تطرفاً وعنصرية. العالم العربي الذي اعتبر، آنذاك، عدائياً تجاه إسرائيل صار منشغلاً بنفسه، وإسرائيل نفسها لم تعد عدوة له، وتبدلت البوصلة وصارت إيران بالنسبة إلى غالبية الدول العربية هي العدو. كذلك إن الدول التي كانت تهدد إسرائيل، وكانت حكومة العدو تسعى إلى عقد «سلام» معها، بسبب خشيتها من جيشها، تعاني اليوم حربا أهلية أضعفت جيشها.
فلسطينياً، إن القيادة التي كانت تستغل العمليات الفدائية في التفاوض والحصول على مكتسبات من إسرائيل، رحلت ولم يبق سوى الذين ساعدوا وحافظوا على ماء وجه إسرائيل. أما الولايات المتحدة التي كان يسعى رئيسها إلى توقيع اتفاقية سلام بين العرب والإسرائيليين ليدخل بذلك التاريخ، فتغيرت، والإدارة الحالية والمقبلة غير معنية بحل الصراع بين الإسرائيليين والفلسطينيين، والأولوية لأي إدارة مقبلة هي محاربة «داعش» و«التطرف الإسلامي».
منذ أيام، اجتمع وزراء خارجية ٢٩ دولة في فرنسا لتحريك التسوية بين الفلسطينيين والإسرائيليين. خرج المجتمعون بخلاصة تقول إنه يجب إقناع الطرفان بضرورة السلام. بالنسبة إلى الطرف الفلسطيني المتمثل بالسلطة، فهو مقتنع بالسلام، وذلك خيار رئيسها الاستراتيجي. أما نتنياهو، فلماذا يريد التفاوض مع رئيس ضعيف كعباس يقدم له كل شيء: تنسيق أمني مجاني دون أي مقابل، بالإضافة إلى إحباط عمليات فدائية كان بإمكان عباس استغلالها كورقة ضغط على نتنياهو لإجباره على تقديم تنازلات؟ فعباس ليس أبو عمار.
في بدايات التسعينيات، كان هناك صراع بين مدرستين في إسرائيل: الأولى تقول إن على حكومة الاحتلال الانسحاب من أراضي السلطة الفلسطينية لينفتح العالم على إسرائيل، أما الثانية، فكانت تقول إنه يجب التمسك بالأرض وبناء المستوطنات للحفاظ على يهودية الدولة. اليوم نعيش في زمن مدرسة ثالثة لا تريد الانسحاب من الأراضي وتصرّ على «يهودية الدولة» ودول العالم أجمع منفتحة عليها. في زمن كهذا، لن تكون حكومة نتنياهو بحاجة إلى أشخاص مثل عباس، بل بالعكس «أبو مازن» بحاجة نتنياهو للبقاء في منصبه.
«بيبي» يعيش اليوم عصره الذهبي؛ السلطة الفلسطينية تزحف للحديث معه، ودول الاعتدال (الخليج) العربي بدأت تتواصل مع حكومته علناً، لذلك لا داعي لتقديم تنازلات إسرائيلية لأطراف ضعيفة.