سال دم في الجولان فوصل صداه إلى هناك، حيث جذر القضية، إلى مخيم لاجئين في طولكرم، شاب في مقتبل العمر، يغلي الدم في عروقه، فيعلن جوابه من على نصل سكين. هل هذه صدفة؟ ربما، ولكن الأكيد أن في هذه الصدفة معنى ورسالة وأمل.
إسرائيل ضربت في الجولان، فهب المحللون يفككون المشهد ويعيدون تركيبه، قالوا: هذا تغير استراتيجي، اليوم باتت جبهة المقاومة واحدة مفتوحة من الجنوب اللبناني حتى الجنوب السوري. الشاب غير المنتمي حزبياً، الذي ربما لا يحرص على قراءة الجريدة كما نفعل، ولا يعنيه من السياسة إلا معادلتها الأولى التي تقول: أرض + احتلال= مقاومة، قال: ولكن عفواً يا سادة، قراءتكم متأخرة، فالأرض واحدة والاحتلال واحد، وبالتالي جبهة النضال واحدة.

إسرائيل تقتل مقاوما لبنانيا على أرض سورية محاذية للحدود الفلسطينية. لم نلتفت إلى هذا المشهد. لم نر فيه أي رمزية. انشغلنا في التخمين والتنبؤات: حزب الله سيرد، لن يرد، غير قادر على الرد، بل غير معني، فهو مشغول في سوريا. تنبؤات لا تخلو من الغمز واللمز، ولكن الشاب اللاجئ ذكرنا بقاعدة غابت عن بالنا في ظل هذا التيه الطائفي المجنون، ومضمونها أن الوجع واحد والحرب واحدة والرد بغض النظر من أين يأتي، فبوصلته يجب أن تكون واحدة.
ولكن هل هناك مكان باقٍ لمثل هذا الكلام الذي قد يوصف بالرومانسية الساذجة؟ أي وجع وأي وحدة في وسط هذه العتمة وفي ظل ذاك الجهل الذي يتسرب من ثقوب التاريخ؟ أي بوصلة وهدف وأي عدو مشترك ونحن اليوم أعداء أنفسنا؟ هذا سني وذاك شيعي، نحن مسلمون وهم مسيحيون وإيزيديون وأكراد، إلى آخر القائمة؟ ألم تر كيف أن بغداد اليوم أقسى من المغول على نفسها؟ ألا تتابع كيف أن التاريخ في سوريا يعيد نفسه على شكل مأساة؟
لا شك أن الشاب حمزة متروك ابن الـ 23 عاماً قد شاهد وسمع كل ذلك، ولكن يبدو أنه لم يفهمه ولم يشعر بالانتماء إليه. أن تترك كل هذا الجنون خلف ظهرك، بل تترك أيضاً ربيع العمر زاهداً فيه وتتبع فطرتك الإنسانية، فطرة من ظلم وسرق وطنه فهذا يعني أنك تنتمي إلى هوية واحدة تجمع ولا تفرق، وهي هوية الأرض.
أكاد أتخيل صورة بنيامين نتانياهو ورد فعله عندما أخبروه عن عملية الطعن في وسط تل أبيب. كل حرصه وخوفه كانا منصبين على جنوب لبنان والجولان حيث اقترف فعلته، فخرج له شاب وعلى عاتقه الشخصي ومسؤوليته الفردية من أقصى الضفة المحتلة، ليقول له: كلنا أبناء هذه الأرض، فصرخ وغضب وضرب كف بكف. ما أوجع نتانياهو في هذه العملية ليس الدم الذي سال، ولا حسابات الأمن والسياسة، بل غزارة المعنى وقدسية الرمزية في عمل هذا اللاجئ.
ربما على الحكومة الإسرائيلية بعد هذه العملية أن تعقد اجتماعاً «غير أمني»، بل اجتماعا يضم أساتذة تاريخ واجتماع، ليتدارسوا الأسئلة التالية: كيف لا يزال الدم الذي يسيل في لبنان بإمكانه أن يشعل الدم في فلسطين؟ ألم نجعل منهم شعوباً وقبائل وطوائف وأديانا متصارعة متناحرة؟ ألم ننبش لهم التاريخ كل يوم لنذكرهم بأن معارككم القديمة لم تحسم بعد؟ ألم نقنعهم بأن كل شعوب الأرض ودودها أعدائكم إلا نحن؟ ألم ينشأ هذا الشاب في زمن «السلام الاقتصادي» و«التنسيق الأمني»؟ ألم يكبر في زمن اختفت فيه «بندقية الفدائي» وحلت مكانها بندقية الشرطي؟ ألم نشوه منهاجه الدراسي؟ ألم نشعل لهؤلاء الشباب أحلاماً وهمية في كل زاوية من هذا العالم إلا في وطنهم، تماماً كما أشعلنا لهم حروباً وهمية أيضاً؟... كيف يمكن لشاب في عقده الثاني أن يمتلأ بالحقيقة بهذه السرعة؟ كيف يسترجعون البوصلة في كل مرة بهذه السهولة؟
هذه الأسئلة مطروحة على كثيرين بيننا أيضاً. فاللحظات التاريخية التي تمثل علامة فارقة في حياة الشعوب غالباً يصنعها سكان الهامش، ومثلما هنالك جهلة ومتعصبون يحاولون جرنا للماضي، هنالك المحصنون بالأمل، وهم لا يرون غير المستقبل، وطنهم هوية وهويتهم أرض، يمضون في طريقهم غير عابئين بصخب الجهالة والتعصب.