تحويل «الريع الخليجي» إلى شبكة استثماراتحسن شقراني
إذا كانت المراحل السابقة التي مرّ بها التعاون العربي مشوبة بالخلافات، سطحيّة كانت أم جذريّة، فإنّ المسؤوليّة تطرح بهوامش واسعة على العرب من أجل إنتاج بروتوكول تعاون استراتيجي تعدّ مفاعيله أبعد من اتفاقيّة التجارة الحرّة بين العرب (Gafta)، التي لم يُطبّق منها شيء نسبياً نظراً للاختلالات الجوهريّة التي تنعكس خلافات متعلّقة بـ «صعوبة» توحيد الأساليب.
فحتى بعد 12 عاماً على توقيع تلك الاتفاقيّة، لا تزال نسبة التجارة العربيّة البينيّة تمثّل 10 في المئة فقط من التجارة الخارجيّة للبلدان العربيّة. هذا فضلاً عن حركة رأس المال العربي وضعف توجيهه باتجاه استغلال الإمكانات الهائلة والقدرات البشريّة في الوطن العربي.
ولكن لهذه المرحلة اعتبارات أخرى، يجب على البلدان العربيّة درسها بعيداً من السياسة لتطوير شبكة اقتصاد عربي (ليس بالضرورة أن يكون عند مستويات عليا من التعقيد مثل الاتحاد الأوروبي) يمكنها مواجهة التحديات الاقتصاديّة المقبلة وتحقيق الأرباح الممكنة. فتجربة الانهيار المالي الأخير بسبب أزمة الائتمان العالميّة أوضحت هشاشة الاقتصادات العربية والاستثمارات الماليّة العربيّة في الخارج، لدرجة أنّ خسائر العرب من الأزمة الماليّة العالميّة بلغت 2,5 تريليون دولار خلال أربعة أشهر فقط.
من هنا تنبع ضرورة بلورة استراتيجيات اقتصاديّة لمواجهة التحديّات المقبلة. ولكن قبل صياغة تلك الاستراتيجيّات لا بدّ من إيضاح المواقف المبدئيّة من مسائل عديدة مطروحة، وتحديداً على الصعيد الخليجي، والتي لا يزال الغموض يكتنفها. وعلى سبيل المثال، يمكن ذكر الوحدة النقديّة بين البلدان المنتمية إلى مجلس التعاون، بعدما حدّد عام 2010 موعداً لانطلاق تلك الوحدة التي تعبّر عنها عملة خليجيّة موحدّة، ولكن خلافات بينية أدت إلى إرجائها.
من جهة أخرى، هناك مسألة ربط العملات. ففيما تربط السعوديّة وعمان والإمارات وقطر والبحرين عملاتها بالدولار، ارتأت الكويت فكّ هذا الارتباط وجعل سعر ريالها محدّداً بسلّة من العملات. وليس واضحاً بعد حجم التعقيدات التقنيّة التي يمكن أن تنشأ من هذا البند. ولكنه لا يزال يمثّل إلى جانب عوامل أخرى، عقبة جديّة في وجه صياغة طبيعة الوحدة وكيفيّتها.
هذه التعقيدات الخليجيّة المطروحة في مرحلة التحديات تترافق مع ركود هيكليّة الاقتصادات الخليجيّة وطبيعة النشاط فيها، وتترافق أيضاً مع تدهور سعر النفط الذي تعتمد عليه البلدان الخليجيّة في عائداتها واستثماراتها وإنفاقها وخططها وعموماً في صياغة استراتيجيّة التنمية التي لا يبدو أنّها مستدامة. فقد انخفض سعر برميل الوقود الأحفوري بنسبة وصلت إلى 75 في المئة منذ تسجيله المستوى القياسي التاريخي في 12 تمّوز الماضي: 147 دولاراً.
وهنا يمكن استخلاص حجم التحدّيات التي تواجه مساعي إطلاق عجلة التعاون الاقتصادي العربي؛ فالتعاون يفترض توظيفات ملائمة للرساميل في القطاعات الحيوية في البلدان الأكثر حاجة أو التي تؤمّن بيئة اقتصاديّة تمثّل الجدوى القصوى الممكنة للمشاريع والاستثمارات في كل القطاعات. فإذا كانت السعوديّة، المنتج الأكبر للنفط في العالم، ستسجّل خلال العام المالي المقبل عجزاً يبلغ 17 مليار دولار، فما هو حجم المبلغ الذي يمكن ادخاره لتنشيط الاستثمارات العربيّة البينيّة، أو لتحفيز التجارة البينيّة؟
هذا التعقيد تزيد من حدّته طبيعة الاقتصادات العربيّة الأخرى والتشكيلات الاجتماعيّة فيها. فإذا كانت البلدان الخليجيّة تعدّ نامية (فقط بسبب عائدات النفط الذي سينضب في النهاية، أو سيُستبدل بمصادر الطاقة البديلة في البلدان الصناعيّة الشرهة للوقود) فهناك البلدان الأخرى ذات الاقتصادات المتنوّعة التي تعدّ فقيرة مثل لبنان. وحتّى إذا استثنينا النفط، تكتسب بعض البلدان العربيّة صفة الناشئة من عوامل غير أساسيّة كالفقّاعات أو حتّى الاستثمارات الوطنيّة غير المفيدة استراتيجياً.
وانطلاقاً من هذه النقاط المطروحة، يمكن التركيز على 3 مسائل تعدّ الأكثر ضروريّة ربّما لرفع الحديث عن التعاون الاقتصادي العربي إلى مستويات أرفع:
1 – تبرز أهميّة البلدان الخليجيّة من منطلق أنّها تمثّل مصدر الأموال في الوطن العربي بسبب عائداتها النفطيّة. والسعوديّة هي البلد العربي الوحيد في مجموعة الدول العشرين الكبرى (G20). لذلك فإنّ تلك البلدان تعدّ ركيزة التعاون العربي من حيث تدفّق الرساميل والاستثمار في الاقتصادات العربيّة الأخرى.
2- إنّ انخفاض عائدات البلدان الخليجيّة بسبب حركيّة أسعار النفط تزيد من مخاطر النزعات الحمائيّة. ومن هذا المنطلق تبرز الخطورة على التعاون العربي من باب سعي كلّ بلد إلى ترتيب شؤونه الماليّة والاقتصاديّة الخاصّة.
3- إنّ الجهود العربيّة التي يجب أن تصبّ في مصلحة زيادة مستوى التعاون يجب أن تترافق مع إجراءات وطنيّة تقوم بها كلّ جمهوريّة ومملكة وإمارة على حدة لإعادة هيكلة الاقتصادات الريعيّة. فالنفط يمكن أن ينضب قبل مئة عام والرؤى الاستراتيجيّة يجب أن تبرز الآن لمصلحة الأجيال المقبلة وبعيداً عن فخّ السياسة.
هذه الطروحات تعدّ خياليّة في الوقت الراهن، إلّا أنّ بحثها ضروري في أيّ قمّة أو اجتماع يمكن أن يجمع البلدان العربيّة، ويمكن أن تمثّل قمّة الدوحة بداية سياسيّة لمسيرة الألف ميل على الصعيد الاقتصادي.


«هل انفجرت الفقّاعة الخليجيّة؟»لقد نمت تلك الفقّاعة خلال العقد الأوّل من القرن الواحد والعشرين نموّاً صاروخياً وفي قطاعات مختلفة. ولكن المؤسف أنّ تلك الفقّاعة لم تظهر سوى في قطاعات ريعيّة. وهكذا انهارت أسعار العقارات في «الإمارة المعجزة» دبي بنسبة وصلت إلى 25 في المئة. كما جمّدت مشاريع عقاريّة في الإمارات تزيد قميتها على 340 مليار دولار.
أمّا في السعوديّة، فقد بان الأثر الجذري من النتائج التي حقّقتها أكبر شركة كيميائية في العالم، «سابك»، وفي نتائج المصارف. وفي الكويت، زادت الأزمة الماليّة من حدّة التوتّرات السياسيّة القائمة.
وظهرت تلك النتائج بعدما تراجعت مؤشّرات البورصات الخليجيّة الفتيّة، إذ خسرت بورصة دبي أكثر من 70 في المئة من قيمتها، فيما بلغت نسبة الخسائر في بورصة السعوديّة 60 في المئة.