في أقسى لحظات الصدام بين السلطة والمعاضة، كان هناك اطمئنان إلى «قوة» ما لسلطة القضاء، رغم أنها ليست مستقلة تماماً. إلا أن نظامها وتقاليدها المتوارثة، وضعت القضاء في مساحة بعيدة عن لعب السلطات الجبارة. لكن هذه الميزة تتعرض كل فترة لمذابح، سواء من حروب النظام أو تقاليد المجتمع
وائل عبد الفتاح

جوعى البحث عن فضيحة


أطلّت الزوجة من الشرفة ووجدت المفاجأة. فرقة موسيقية تعزف تحت لافتة ضخمة جداً. لمحت اسمها واسم زوجها. الحركة توقفت في الشارع. الزوج ابتسم مرتبكاً، تابع حركة كاميرات الفضائيات، وتأكد من التقاطها للحظة الدهشة. زوجته كانت تنتظر إجراءات الطلاق، فجاء إليها بحفل اعتذار عمومي. أهانها أمام عائلتها. وطلبت الطلاق. فاعتذر لها أمام مصر كلها. هذه هي الطرفة التي التقطتها الصحافة والفضائيات وعزفت فيها الفرقة الموسيقية في أغرب موقع لها. حفل أدهش الرومنسيين. واعتبرته فرق متعددة نوعاً من السذاجة.
الطرافة بقيت مدهشة للفريقين، ومعها قدرة شخص عادي على أن يحول حياته الخاصة إلى شيء عام. ليس بحثاً عن نجومية. ولكنها محاولة واعية لفتح نافذة يطل منها الجمهور العام على حكاياته الخاصة، من دون تلصّص أو استراق سمع أو اقتحام لأصوات الفرح والمتعة والشجار العائلي لحجرات من فرط اقترابها تكاد تحطّم الحائط الرابع لتصبح مسرحاً واحداً. الزحام في مصر يحوّل الحوارات والدردشات والمعارك الحميمية إلى عروض عمومية.
هذه الوقائع تحدث كل يوم في أحياء شعبية. الحياة الخاصة هي عرض مفتوح تقريباً. لكن مكان العرض هو ما أعطى لاعتذار الزوج نكهة رومانسية؛ حي طبقة وسطى وعائلة تخفي خلف نوافذها وشرفاتها أسرارها الخاصة.
لم يترك الزوج مساحة للتلصص. أحد أساليب المدينة في المعرفة. ابن المدينة يتلصّص عبر أساليب متعددة تنضج معه. وتتحول أحياناً إلى مؤسسات، كما يحدث عندما يكون التلصص بين الطبقات. الفقراء لا يستطيعون التلصص على الأغنياء، فتقوم الصحافة بالمهمة، تكشف ما يدور وراء الجدران المخملية. عالم أسطوري، تعيد الصحافة صياغته على حسب مزاجها.
مزاج هذه الأيام تحريضي. يتلصّص على الخاص. يقتحمه. ويرى أن هذه فضائح أثرياء هذا الزمن. لا يترك للقراء متعة المشاهدة وحرية تكوين انطباعات عن ذلك العالم الخرافي، لكنها تحوّل ما يدور في قاعات مغلقة إلى فضائح عمومية تتغذى عليها جروح المجتمع العاجز عن المتعة.
نشرت صحيفة متخصصة في الحوادث على غلافها موضوعاً عن «آخر فضائح أثرياء هذا الزمن». كيف تكون فضيحة في قاعة خاصة؟ كيف يتحوّل حفل مغلق على دعوات خاصة إلى مكان فضيحة تشغل 6 صفحات من الصحيفة؟
الصحافي كتب تفاصيل لقطات مصورة من حفل زفاف اختار أصحابه (وهم ليسوا من الأثرياء، كما تبيّن عند مراجعة اللقطات على موقع اليو تيوب) طريقة غريبة للاحتفال بالزفاف (التدقيق في المعلومات كشف أيضاً أن الحفل كان في بيروت، لا في القاهرة).
الصحافي رأى أن العرض الخاص عموميّ. هكذا ببساطة رأى فيه كشفاً لأخلاق الزمن الجديد. رغم أن العرض اعتمد على جرأة الإيحاء: اختطف العريس قطعة ملابس داخلية من زوجته ووضعها في كأس شمبانيا قبل أن يحتسيها.
عرض رمزي وطقس جنسي، يمكن أن يكون موضع دروس في مجتمعات أخرى (الكاماسوترا الهندي مثلاً). كما أنه في طبقات فقيرة يتحوّل اليوم السابق على الزواج إلى عروض طقسية خاصة كلها تتعلّق بالجسد والتعاليم الجنسية.
لو صوّر واحد من هذه الاحتفالات الخاصة، التي تجري أمام جمهور واسع (من النساء أو الرجال على حدة) لأمكن تسميتها الفضيحة، لكنّ «فضيحة الأثرياء» كانت أقل عرياً وبلا لحظة مكشوفة واحدة. كلّها مشاهد تمثيل للجنس بين زوجين.
تمثل خاص عدّه الصحافي فضيحة عامة. وأطعم ملايين الجوعى لفضيحة عرضاً جديداً يفتح فيه الجدار بين الخاص والعام بقوة رسالة الوعظ والأخلاق الرشيدة. الصحافي صائد فضائح، التقط فريسته ولم يدقّق فيها. المهم أنه سيبيع فريسته لجمهور واسع ينتظر الانتقام من لصوص ثرواته بأسلوب التشفّي والفضح ومصمصة الشفاه مع لعنات وطلب للرحمة.
مثل مسرح التطهير تغسل هذه العروض المشاعر المثقلة. دون التفات إلى أن اقتحام العمومي للخاص جريمة لا يبررها البحث عن فضيحة للأثرياء أو تحريض الفقراء على الغضب باستخدام الحس المحافظ. هذا لعب في المساحة بين الأخلاقي والسياسي.
يفرغ الطاقات ويقود الوعي إلى منطقة يرى فيها أن العفن يختبئ وراء الجدران وأن ما يحدث عقاب إلهي على خطايا أخلاقية. هناك تصور بأن المشكلة في مصر أخلاقية لا سياسية. ولأن السياسة ممنوعة، يظهر في مواقع كثيرة حراس أخلاق ومراقبو فضيلة يتلصّصون على الآخرين بحثاً عن خطيئة.
هؤلاء هم قادة «المعارضة المشروعة».
تفرّغ الصحافيون لمطاردة العشّاق على كورنيش النيل. يصورون لمسات الأيدي والاقتراب على أنه «رذيلة في الطريق العام». ويرون القبلة في السينما دليل انحراف جنسي، وأدوار الإغراء تحذف المسافة بين الممثلة وبائعة المتع.
هذه انشغالات الصحافيين الذين ينسون المهنة ويتفرغون لمهمة مفتشي الأخلاق. مهمة تمنحهم شهرة ونرجسية تعوّض القصور المهني. فالمراقبة فعل العاجزين والمتصيدين للخطايا.
سمة مجتمع محافظ يخاف من الانفلات (الأمني والأخلاقي). هذا المزاج استقبل بطريقة عادية الحكم على «سفاح المعادي» بالسجن 45 عاماً. 45 عاماً في جريمة تحرش بالنساء. مجرد لمس مؤخرة الضحايا. مهووس يعاقب بالسجن كل ذلك العمر؟ الجريمة قاسية. تنتهك أمان النساء. لكن لماذا العقوبة المفرطة؟ الصحافة أيضاً أفرطت في التصور وأطلقت على الشاب (20 عاماً) لقب السفاح. مريض يخاف من النساء وخجول من رائحته. يبحث عن لحظة لمس بالقوة. من أين أتت القوانين التي تعاقبه بكل هذه السنوات؟ العقاب ضروري. لكن الإفراط هنا يكشف عن ذعر ينتاب المجتمع. القضاة يؤدون أداورهم بإفراط الخائف على المجتمع والمصحح لخطاياه والمنظّف للعفن المتخيل بين أنسجته. مهمّات جعلت القضاة يقدمون على أحكام الإعدام بخفة أكبر، حتى إنه في الأشهر الستة الأولى فقط من هذا العام صدر 55 حكماً بالإعدام.
كأن مصر تعيش حملة تطهير، عادت معها روح الانتقام من المجرمين لا إصلاحهم. غزوات دموية غير معلنة لأوكار متخيّلة للخطيئة والفساد.
إنها حرب المتطرّفين فقط.

مذبحة القضاء الباردة




تهتز أوساط القضاء هذه الأيام بمحاولة وزير العدل ممدوح مرعي تغيير تشكيلة مجلس القضاء الأعلى. وهذه هي النقلة الكبيرة في خطة اللعب في القضاء، ذلك اللعب الخطر

«المذبحة الباردة»، هذه تسمية أخرى لما يسمّيه «المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة» هجوم السنوات الثماني من السلطة التنفيذية على سلطة القضاء.
التسمية جاءت في تقرير العدالة. وتشير بشكل ما إلى جرأة خبراء محترفين في نظام مبارك على فعل ما لم تفعله مذبحة القضاء الأولى في عهد عبد الناصر، التي جرت على مرحلتين. الأولى في بداية الخمسينات عندما ضربت مجموعة من «المتحمسين لنظام الثورة» الفقيه القانوني الشهير عبد الرازق السنهوري عقاباً على حكم أصدره ضد قوانين الإصلاح الزراعي للثورة. ورغم احتجاج عبد الناصر على الضرب، فإنه عزل السنهوري بعدها بقليل جداً. لكن المذبحة الكبرى حدثت في 1968، عندما عُزل أكثر من 60 قاضياً لأنهم ليسوا أعضاءً في التنظيم السياسي للدولة، وأصدروا بياناً رأوا فيه أن غياب الحريات هو سبب هزيمة حزيران 1967.
«عبد الناصر بكل جبروته لم يقترب من بناء القضاء»، هكذا قال مدير المركز العربي لاستقلال القضاء والمحاماة، ناصر أمين المخامي، الذي أصدر التقرير، واكتشف عندما وضع الأحداث في السنوات الثماني «أن النظام لم يستهدف فقط نادي القضاة الذي خاض ضده معركة عنيفة عام 1952. لكنه استهدف تغيير بنية القضاء المصري ككل».
لعب النظام في هيئات القضاء. اللعب كان في إطار تغيير شكل الاستبداد تدريجياً من العنف المباشر إلى العنف بالقانون.
استبداد بالقانون، هذا هو أسلوب مميز لعصر مبارك. عصر الرمال المتحركة وعقلانية الموظفين. هذا ما تقوله حكايات تقرير العدالة عن تفكيك أو إعادة تركيب هيئات القضاء في هجوم الـ 8 سنوات.
القلق تركّز في 3 هيئات كبرى: المحكمة الدستورية ومحكمة القضاء الإداري، وبالطبع محكمة النقض.
«الدستورية» في عهد المستشار عوض المر فجّرت 3 قنابل في وجه النظام عندما أصدرت قوانين ألغت انتخابات 1985 وبعدها 1995، ما استلزم حل مجلس الشعب في المرتين. تحمل النظام القنبلتين، لكن في الثالثة بدأ العصف لأن الأمر يتعلّق بالمال. وزير المالية الشهير محمد الرزاز (الذي ذكر المصريين بجباة عصور المماليك) أصدر قوانين ضرائب جديدة، بينها فرض ضرائب على العاملين المصريين بالخارج. وحصّلت الدولة وفقاً لهذا القانون تقريباً 80 مليون جنيه مصري، وعندما صدر الحكم بإلغاء القانون كانت الأزمة، لأن أحكام المحكمة الدستورية تطبّق بأثر رجعي، ما يعني أن الدولة ستلزم بإعادة الأموال التي اقتطعتها من العاملين بالخارج. هنا كانت الثورة، تدخّل فيها النظام من الرئيس إلى أصغر صحافي، وبين التهديدات الخفية ورسائل الاستياء العليا، توصّل مفصّلو القوانين في النظام إلى حل يحفظ للمحكمة هيبتها، فصدر قانون من رئيس الجمهورية بتعديل في قانون المحكمة يجعل أحكامها تطبّق بأثر رجعي «إلا في حالة قوانين الضرائب».
التفصيل لم يعجب الجمعية العمومية للمحكمة. ورفضت التصديق عليه، فتسربت أخبار في صحف النظام عن أسماء مرشحة لرئاسة المحكمة من أشهر مفصّلي القوانين، ومن خارج نظام الأقدمية المتعارف عليه. فوافقت الجمعية خوفاً من ضرب المحكمة، ومر القانون.
لكن النظام بعد أشهر أكمل المخطط، وبدأت الضربات المتتالية إلى أن تقلص دور المحكمة الدستورية بشكل ملحوظ، عبر تحويلها إلى «ثلاجة» حفظ القضايا، ولا سيما ذات الصلة بالحقوق والحريات، وذلك عبر إعادة تأليف المحكمة بطريقة تعطّل الأداء.
ويذكر التقرير بعض الوسائل التي مكّنت الحكومة من تعطيل المحكمة الدستورية، وبينها: «إصرار السلطة التنفيذية على تعيين رئيس المحكمة من خارج أعضاء جمعيتها العمومية». وأصبحت المحكمة مكاناً تحت سيطرة «أصدقاء» النظام من القضاة.
بعدها كان الدور على «محكمة القضاء الإداري»، المعروفة بأنها تمثل «قضاء المشروعية والحريات»، ودورها كان النظر في مشروعية قرارات الحكومة. لكنها كانت خطراً على أكثر من مستوى، الأول قرارات وزير الداخلية الخاصة بالاعتقالات والثاني طعون الترشيح والانتخابات.
ومنذ سنة 1930 وحتى «هجوم الـ 8 سنوات»، كانت الحكومة هي «الخصم الشريف»، الذي ينفذ أحكام القضاء الإداري فور صدورها. لكن خطة الهجوم سحبت منها أولاً النظر في قرارات الاعتقال، وأحالتها على مكتب خاص لدى النائب العام، ثم نقلت النظر في طعون الانتخابات إلى دائرة خاصة في محكمة النقض (أعلى هيئة قضائية في مصر). الخطوة الثالثة كانت في تحويل أحكام القضاء الإداري إلى «ورقة يبلّها الناس ويشربون ماءها»، بعدما امتنعت الحكومة عن تنفيذ 95 في المئة من الأحكام الصادرة، لتبقى محكمة النقض، التي فشلت كل المحاولات حتى الآن في ضربها.
هذه بعض حكايات تقرير العدالة عن الهجوم على استقلال القضاء. هجوم هدفه عزل القضاة في ثلّاجات النظام، لكي لا يشعر الناس بالعدالة. وأيضاً هو هجوم الذعر من خروج القضاة عن السيطرة ومدّ جسور بينهم وبين الناس. وهي أوهام المذعورين. لأن القضاء سلطة منفصلة تماماً، لا دخل لها بمحاولة السلطة التنفيذية إحكام السيطرة. ومحاولات الناس الإفلات منها. سلطة تتعلق بتحقيق العدالة. وهو مفهوم يطمئن السلطات الديموقراطية لكنه يصيب أنظمة الاستبداد بالذعر، لأنها أنظمة تقوم علي جمع السلطات الثلاث في سلة واحدة يضعها الحاكم في خزانة ملابسه مع ربطات العنق وخاتم الحكم.