طائفة «تائهة» بين الإسرائيليّين والعرب جبل جرزيم ــ أسامة العيسة
أخذ صدقة السامري مكانه قرب الخندق الصغير المخصّص لذبح الخراف في عيد الفسح، أهم أعياد السامريين. بدا بلباسه الأبيض وطربوشه الأحمر، مختلفاً. اغرورقت عيناه بدموع جهد لخنقها، حين هبّت نسمة باردة على جبل جرزيم، أقدس مكان للسامريين، الذين يسمّونه جبل الطور. تذكّر صدقة ولده نادر. وسرح بالتاريخ الطويل الذي لا يزال يتحكّم في رجال ونساء، اختاروا أن يكونوا ضمن أصغر طائفة على وجه الأرض، يقدّر عددها بنحو 750 نسمة، نصفهم تقريباً يعيش على الجبل المطل على مدينة نابلس، والنصف الآخر في حولون قرب تل أبيب. وقف صدقة لنحر خروف العائلة، كما فعلت 48 عائلة، وفعل أجداده منذ ثلاثة آلاف سنة كما يعتقد. وإذا كان السامريون يذكرون الله بكثرة لتحريرهم من عبودية الفراعنة، فإن صدقة لم يستطع إبعاد صورة ابنه نادر عن ذهنه، الغائب منذ سبع سنوات.

أصبح قائداً لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى في نابلس

نشأ نادر على جبل جرزيم، الجبل المهيب المطل على نابلس، الذي تعتلي قمته بقايا آثار حضارات مختلفة، من مذبح إسحق، وهو عبارة عن صخرة محفورة يعود عمرها إلى نحو 4500 عام، بحسب اعتقاد السامريين. ومقام الاثني عشر، أسباط بني إسرائيل، إلى بقايا الكنائس البيزنطية حتى مقام الشيخ غانم الإسلامي، الذي يعود إلى العصر الأيوبي، ويرفرف عليه علم إسرائيلي.
وكأبناء السامريين الذين يعيشون على جبل جرزيم، تعلّم نادر في مدارس نابلس، وشبّ في طرقها، ثم درس علم الآثار في جامعة النجاح. وفي وقت لاحق حدّد خياراته، التي ظهرت جليّةً خلال انتفاضة الأقصى، وأصبح قائداً لكتائب الشهيد أبو علي مصطفى في نابلس، الجناح العسكري للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
نشط نادر مع الجبهة الشعبية في جامعة النجاح، وعُرف كقارئ نهم «لا يترك الكتاب من يده»، كما يقول والده بفخر. وأيضاً كفنان في الخط العربي، جعل والده يصفه بأنه صاحب «يدين تلتفّان بالذهب». خطَّ نادر لافتات التنظيمات الفلسطينية، لشهرته كخطّاط، ووزع البيانات إلى أن «حمل السلاح مع أبرز أبناء جيله في نابلس، كالشهيدين يامن فرج وجهاد العالول». الأول هو أحد أبرز المقاومين الذين اغتالهم الاحتلال، والأخير هو ابن محمود العالول، عضو اللجنة المركزية لحركة فتح، الذي حضر الاحتفال بالفسح وجلس إلى جانب الشخصيات المدعوة من الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، في مشهد أثار الكثير من المفارقات لدى الحضور، الذين رأوا شخصيات مثل العالول وتيسير خالد، القيادي في الجبهة الديموقراطية وغيرهم، يجلسون ويتبادلون الحديث والنكات مع ضباط في جيش الاحتلال، من دون اعتراض على فرض مراسم الاحتفال تحت العلم الإسرائيلي. صدقة السامري، الذي ابتعد عن أجواء الشخصيات، قال «كان الشهيد جهاد العالول على خلاف كبير مع والده، أنا أعرف ذلك»، مشيراً إلى أن «استشهاد العالول أثر كثيراً في ابنه نادر، الأمر الذي ضاعف نشاطه، وجعله يدخل المقاومة دخولاً عنيفاً». لائحة الاتهام التي وجّهتها النيابة العسكرية لنادر طويلة، وتتضمن 35 بنداً، بينها اتهامه بتدبير هجوم على حاجز عسكري إسرائيلي أدّى إلى مقتل جنديّين، وتدبير عملية استشهادية على حاجز الحمرا في غور الأردن، وغيرهما.
تنتاب صدقة السامري مشاعر مختلطة إزاء خيارات ابنه، من الفخر بشخصيّته، إلى عدم موافقته على ما فعله. وقال «إذا أردتني أن أتحدث بصراحة عن مشاعري، فإننا كسامريّين طائفة قليلة العدد. اليهود يعدّوننا عرباً، والعرب يعدّوننا يهوداً. نحن جميعاً كفلسطينيّين قشة في مهب ريح مصالح الدول الكبرى، وعندما وجدت أنّ ابني بدأ يميل للنشاطات العنيفة، نصحته وقلت له اترك هذا الأمر. لو حررت القدس فستبقى يهودياً، لكنّه تحوّل إلى شيوعي عنيد». وأضاف «لكونه سامرياً مقاوماً، كثّف الإسرائيليّون مساعيهم حتى ألقوا القبض عليه. وبعد 7 سنوات سجن، لم يتأثر، ولم تتزعزع عقيدته، رغم حداثة سنه، فهو من مواليد عام 1977». خلال محاكمته، بدا نادر متمسكاً بمبادئه، ورفض الوقوف للقاضي في قاعة المحكمة. وحين أصدر الأخير حكماً على نادر بالسجن أربع مؤبّدات، ردّ عليه بشتيمة كبيرة، فزاد القاضي الحكم ليصبح ستة مؤبّدات و45 عاماً. هذه شهادة والده صدقة، الذي يحكي بين حرقة وخوف وفخر.

الطائفة محاصرة بحاجز عسكري إسرائيلي على مدخل جبل جرزيم

ويضيف صدقة، الذي يزور ابنه مع أهالي أسرى القدس، أنّ «نادر يتابع نضاله على طريقته في السجن. هو يواصل تثقيف نفسه، ويُعدّ مؤطراً ضمن تنظيمه، ويكمل دراسته الجامعية. لقد قال لي السجّانون إنهم يعتقلون دماغاً لا جسداًَ».
وأخيراً، عزل نادر في زنزانة انفرادية، بعد اتهامه بتلقّي رسالة داخلية من الأسير أحمد سعدات، الأمين العام للجبهة الشعبية. وقبل اعتقال نادر الذي أصبح «سامرياً شريراً» في نظر قوات الاحتلال، اعتقلت هذه الأخيرة شاباً سامرياً آخر هو كريم اسحق عمران الكاهن، بتهمة نقل منفّذ عملية استشهادية. ورفضت وساطات شخصيات سامرية للإفراج عنه. لذلك، فإنه ليس لدى والد نادر أيّ أمل في الإفراج عن ابنه، مشيراً إلى أن سلطات الاحتلال «أرادت الانتقام من ابنه ليكون عبرة لأيّ سامري».
وتجد نظرية صدقة الانتقامية أنصاراً بين أبناء الطائفة المحاصرة بحاجز عسكري إسرائيلي على مدخل جبل جرزيم. إذ لا يُسمح لأيّ فلسطيني بزيارتها إلّا بموجب ترتيبات خاصة. ويفتح هذا الحاجز في السابعة صباحاً ويغلق في السابعة مساءً، ما أدى إلى عزلهم عن محيطهم الفلسطيني، كما ترى بدوية الكاهن، الصحافية التي تعمل في وكالة «وفا» الفلسطينية الرسمية. أمر دفع بيعقوب عبد الله السامري، الناشط السابق في «فتح»، إلى تأسيس جمعية الأسطورة السامرية، في محاولة منه لكسر هذه العزلة.


من هم السامريون؟ يعدّ السامريون الذين يحملون الجنسية الإسرائيلية، أنفسهم فلسطينيّون. فطوال فترة وجودهم، عاشوا مع الفلسطينيّين في مدينة نابلس، ولهم محالّهم التجارية فيها حتى اليوم. وكانوا يتمتعون بتمثيل نيابي في المجلس التشريعي الفلسطيني، إذ أعطاهم الرئيس الراحل ياسر عرفات مقعداً تحت نظام الكوتا، إلا أنه جرى إلغاء هذا الكرسي بعد وفاته.
في المقابل، يعدّ اليهود كل سامري نجساً، هو وطعامه وعبادته. حتى إنّ لفظ كلمة سامري ينجس اليهود، باعتبار أن العرق اليهودي فيهم اختلط بغير اليهود. كما أنهم يسعون إلى تجنّبهم، فهم لا يكلمونهم ولا يمرّون في أحيائهم.
(الأخبار)