بعد حرب إعلامية لافتة شنّتها إدارة دونالد ترامب على «منظمة الصحة العالمية»، مُحمّلة إياها جزءاً من المسؤولية (بالشراكة مع الصين) عن طبيعة التفشي الحالي لفيروس «كورونا»، قرر البيت الأبيض تعليق المساهمة الأميركية في تمويل المنظمة.هذه «العقوبات»، بمبرراتها المختلفة، ليست غريبة عن نهج واشنطن التاريخي، بمعزل عن هوية شاغل كرسيّ المكتب البيضاوي؛ غير أن ترامب أجاد استخدامها في صفقاته الرئاسية، لتكون أحد أبرز الملامح السياسية لولايته الأولى. فالرئيس المخضرم في قطاع الأعمال، جاء بخطّة واضحة: عقد صفقات (اتفاقيات وفق قاموس الديبلوماسية) مُربحة والانسحاب من أخرى بهدف إعادة التفاوض.
في السياسة الدولية والاقتصاد والمناخ وسوى ذلك، قاد ترامب بلاده إلى خطوات كان «يخجل» (بالمعنى السياسي) أسلافه من المضي بها، علناً، ومباشرة عبر «تويتر». ويمكن لجردة تشمل أبرز ما قام به الرئيس الأميركي منذ تولّيه المنصب، أن تبيّن كيف باتت الصفقات والعقوبات إحدى أبرز أدوات الهيمنة، متفوّقة على «مشاة البحرية» في الفاعلية:

«الصحة العالمية»
بينما تتصدر الولايات المتحدة لائحة الدول المتضررة من جرّاء فيروس «كورونا»، قرر ترامب تعليق مساهمة بلاده في «منظمة الصحة العالمية»، التي تقود وتنسّق الجهود الدولية لمكافحة انتشار الفيروس.
تُقدّر الحصة الأميركية (الأكبر) من إجمالي تمويل المنظمة بنحو 500 مليون دولار سنوياً، وهو مبلغ قد يصعب على المنظمة تعويضه، ولا سيما في ضوء الاحتياجات الكبيرة التي يتطلبها عمل فرقها، والمساعدات المهمة التي تقدمها لدعم الأنظمة الصحية في عدد من البلدان.
وجّه الرئيس الأميركي لائحة اتّهام مطوّلة إلى المنظّمة الدولية، تضمنّت في ما تضمنته، المساهمة في «نشر معلومات خاطئة بشأن انتقال العدوى والوفيات» من جرّاء فيروس «كورونا». وقال ترامب: «لو أنّ منظّمة الصحّة العالمية قامت بعملها بإرسال خبراء طبيّين إلى الصين لتقييم الوضع على الأرض بشكل موضوعي وفضحت عدم شفافية الصين، لكان من الممكن احتواء تفشّي المرض في مهده مع عدد قليل جداً من الوفيات».
وكانت المنظمة انتقدت قرار ترامب في أواخر كانون الثاني، القاضي بمنع دخول المسافرين القادمين من الصين إلى بلاده، وهو إجراء لا يزال يتفاخر به ترامب ويؤكد أنه أبطأ وصول الفيروس.

خفض إنتاج النفط
تولى ترامب خلال الأسابيع الماضية ترتيب صفقة وسيطة بين روسيا والسعودية، وكبار منتجي النفط في العالم، تتيح تخفيض إنتاج الخام، ووقف انهيار أسعاره، في ضوء الظروف الحالية. وتخلل ذلك اتصالان مطوّلان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
لتحقيق الهدف المرجوّ، وإلى جانب التفاوض حول حصص خفض الإنتاج، لم تتردد إدارة ترامب في التلويح بالعقوبات، والترغيب بإلغاء عدد منها. فقبل أيام فقط، أجرى أعضاء في مجلس الشيوخ الأميركي اتصالاً مع سفيرة السعودية في واشنطن، ريما بنت بندر، مستنكرين ما قامت به السعودية خلال حرب أسعار النفط.
وفي حديث إلى شبكة «CNN» الأميركية قال أحد أعضاء مجلس الشيوخ، وهو دان سوليفان، إنه وزملاءه بدؤوا «اتخاذ إجراءات من شأنها البدء بتقويض العلاقة الطويلة الأمد (مع السعودية) والتي دعمها الكثير منا».
ونصّ بيان نشره سوليفان وزميله كيفين كارمر، عقب المكالمة، أنّ «السعودية شنّت حرباً على منتجي النفط الأميركيين على مدى شهر، في الوقت الذي كانت فيه قواتنا تحميهم، هذه ليست الطريقة التي يتعامل بها الأصدقاء بعضهم مع بعض».

الشراكة عبر المحيط الهادئ
بعد أيام فقط على توليه منصبه، وعد ترامب بانسحاب بلاده من اتفاقية «الشراكة عبر المحيط الهادئ»، وهي اتفاقية تجارية بين 12 دولة مطلة على المحيط الهادئ؛ استغرق التفاوض عليها سبع سنوات، وتم التوقيع عليها خلال الولاية الثانية للرئيس باراك أوباما. وكانت أهدافها تعزيز الصادرات وإزالة القيود الجمركية وإتاحة الوصول السهل إلى الأسواق.
خطوة ترامب شكّلت منعطفاً نحو «الحمائية الاقتصادية»، إذ كانت الاتفاقية تتيح للشركات الأميركية فرصة للبحث عن «العمالة الرخيصة» في الخارج. ولكن ترامب قال إن أولويته تقليل عدد فرص العمل التي تذهب إلى خارج السوق الأميركية، مبرراً الانسحاب بأنه «ضروري لتعزيز الصناعة الأميركية وحماية العمال الأميركيين ورفع الأجور الأميركية».
وقال ترامب عقب الانسحاب، إنّ بلاده «ستنضمّ إلى الاتفاقية (مجدداً) إذا كان الاتفاق أفضل إلى حدّ كبير مقارنة مع ما عُرض على الرئيس (باراك) أوباما».

اتفاق باريس للمناخ
في مطلع حزيران من العام 2017، أعلن ترامب أنّ بلاده ستنسحب من اتفاق باريس، وهو اتفاق دولي معنيّ بالمناخ، وقّعته الولايات المتحدة في ظل إدارة أوباما. ويهدف إلى مكافحة الاحترار العالمي عن طريق تقليل انبعاثات الغازات، مثل ثاني أكسيد الكربون والميتان، والتي تنبعث من جرّاء حرق الوقود الأحفوري، مثل النفط والفحم والغاز الطبيعي.
رأى الرئيس الأميركي أن الاتفاق عقوبة لبلاده، التي وصفها بـ«رائدة العالم في حماية البيئة». وقال إن الاتفاق يفرض «قيوداً مرهقة على قطاع الطاقة»، ويسبب خسائر في الوظائف المحتملة.
وأوضح أن هناك خططاً لبدء مفاوضات «إعادة الدخول في الاتفاق، أو في صفقة جديدة تماماً، بشروط عادلة للولايات المتحدة وعمّالها ودافعي الضرائب فيها».
تاريخياً، صُنّفت الولايات المتحدة كواحدة من أسوأ الدول بمقياس انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، رغم انخفاض معدل مساهمتها في انبعاثاته، الذي سُجّل منذ العام الماضي.
وبعد توقيع سوريا على الاتفاق في العام 2017، أصبحت الولايات المتحدة الدولة الوحيدة في العالم خارجه.

اقرأ أيضاً: هل تبقي الولايات المتحدة على التباعد الاجتماعي حتى 2022؟
اقرأ أيضاً: ترامب يطبع اسمه على مساعدات المتضرّرين من كورونا

«النووي الإيراني»
في حملته الانتخابية الرئاسية عام 2016، وعد (المرشح) ترامب بأنه سيمزّق ــ بمجرد توليه منصب الرئاسة ــ خطة العمل الشاملة المشتركة مع إيران (المعروفة باسم الاتفاق النووي الإيراني).
وصف الرئيس الاتفاق بأنه «أسوأ صفقة على الإطلاق»؛ وفي أيار 2018، أعلن البيت الأبيض الانسحاب منه، بسبب «فشله في حماية مصالح الأمن القومي الأميركية».
لم يغلق ترامب الباب أمام عقد «صفقة جديدة» بشروط مسبقة، أهمها «تخلي إيران تماماً عن نوايا تطوير أسلحة نووية». وبالتوازي، جددت الإدارة حُزم العقوبات على إيران، بما في ذلك حصار العديد من القطاعات الاقتصادية، ولا سيما الطاقة والبتروكيميائيات.

«نافتا»
في آب 2018، أنهى ترامب 25 عاماً من العمل باتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية (NAFTA)، التي تضمّ الولايات المتحدة وكندا والمكسيك. وأعلن عن اتفاقية ثنائية جديدة مع المكسيك عُرفت باسم اتفاقية التجارة الأميركية ــ المكسيكية.
تم استبعاد كندا في البداية من الصفقة الجديدة، وفي أيلول من العام نفسه، أعلنت كندا أنها ستنضم إلى الاتفاقية الجديدة بعد مفاوضات مكثّفة مع واشنطن.

«القوى النووية»
في صيف العام الماضي، انسحبت الولايات المتحدة من «معاهدة القوى النووية المتوسطة المدى» الثنائية مع روسيا. وبدأت واشنطن بشكل أحادي عملية الانسحاب في أوائل شباط من العام نفسه، متذرعة بانتهاك روسيا للاتفاقية التي تم توقيعها في عام 1987 بهدف التخلص من الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى.
وقال ترامب قبل أشهر من ذلك، إن بلاده ستبدأ تطوير الأسلحة ما لم توافق روسيا والصين (ليست طرفاً في الاتفاقية) على اتفاق جديد. وبعد لقاء مع الرئيس فلاديمير بوتين، قال مستشار الأمن القومي السابق في البيت الأبيض، جون بولتون، إن «هناك واقعاً استراتيجياً جديداً... هذه معاهدة ثنائية من الحرب الباردة، حول الصواريخ الباليستية، في عالم متعدد القذائف»، في إشارة إلى رغبة أميركية بإدخال الصين تحت مظلة اتفاق جديد.

«يونسكو»
في خريف العام 2017، أعلنت وزارة الخارجية انسحاب الولايات المتحدة من منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونسكو). لماذا؟ جاء موقف واشنطن رمزياً، لجملة أسباب محورها إسرائيل؛ بينها تصويت المنظمة على ضم فلسطين كعضو فيها. واتهمت وزارة الخارجية الأميركية «يونسكو» بالتحيّز ضد إسرائيل.

«مجلس حقوق الإنسان»
وصفت السفيرة الأميركية السابقة لدى الأمم المتحدة نيكي هايلي، في حزيران من العام 2018، مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بأنه «بؤرة للتحيّز السياسي». وأعلنت انسحاب بلادها منه.
اتخذت إدارة ترامب هذه الخطوة وسط انتقادات لقيام السلطات الأميركية بفصل الأطفال المهاجرين عن آبائهم عند الحدود، ودعوات مجلس حقوق الإنسان، البيت الأبيض، إلى إنهاء هذه الممارسة التي «تتعارض مع معايير حقوق الإنسان».

«أونروا»
في آب 2018، قالت إدارة ترامب إنها ستوقف مساهمات الولايات المتحدة في برنامج الأمم المتحدة لمساعدة اللاجئين الفلسطينيين (أونروا). القرار أتى ضمن خطة لتجفيف المساعدات الخارجية وتقييد تلك المقدَّمة إلى السلطات الفلسطينية في الضفة الغربية وغزّة. وجاء بعد أسبوع على شطب البيت الأبيض أكثر من 200 مليون دولار من المساعدات الاقتصادية المقدمة للسلطة الفلسطينية.
الولايات المتحدة برّرت ذلك بأنها «لم تعد مستعدة لتحمّل حصة غير متكافئة من تكاليف الأونروا». لكنها استغلّت ذلك للضغط على الفلسطينيين والدول التي تستضيف لاجئين فلسطينيين، للقبول بـ«صفقة القرن» التي هندسها صهر ترامب، جاريد كوشنر؛ وراهن ترامب على أنها ستكون واحدة من أبرز «صفقاته» في كرسي الرئاسة.



تابع صفحة «الأخبار» - أميركا على فايسبوك