ليست الكتابة بالنسبة إليه ترفاً، كانت على الدوام امتداداً أصيلاً من تكوينه الثقافي والمعرفي، المنتمي إلى فلسطين وأهلها. هو ذاكرة الماضي والحاضر، احتضن القلم منذ سنوات طويلة، فالكتابة عن فلسطين وأهلها، طاولت مختلف المجالات، فقد نشط في الحقل الثقافي والرياضي والاجتماعي والإعلامي، وفي كل المجالات التي كتب فيها، وحضر كقاصّ يروي سيرة الشهداء، وكمؤرخ يروي سيرة الأسرى بلا انقطاع، وما بين «جنين أمنا البتول» التي روى فيها سيرة الشهداء، ومذكّرات الشيخ بسام السعدي، خط واضح يجمعه فيها عمق الانتماء. إنه الأديب والصحافي الفلسطيني ابن مخيم جنين البار، عصري فياض، الأسير السابق، والأب لأسرى ومطاردين. وقبل نحو أسبوعين فقط حمل توصيفاً وانتماء جديداً، بعد انضم إلى أسر عوائل الشهداء، فقد استشهد ابنه محمد الملقّب «أبو العصري».اعتادت صفحات هذه الجريدة، على كتابة عصري، عن أسر الشهداء، عند حزنهم وألمهم، وهذه المرة، نكتب عنه، بعد لقاء معه، جرى عبر التقنيات، يقول عصري تعقيباً على استشهاد ابنه: «لقد كنت أخجل سابقاً، وأنا أكتب عن سير الشهداء، لكنني اليوم وبعد استشهاد ولدي محمد أصبحت منهم». ما قصده عصري في كلامه، أن يجدد معنى الانتماء الحقيقي، ويقرن بين الكتابة والفعل، فالمثقف الحقيقي لا ينفصل عن قضاياه. كتب جابر عزو أحد أصدقاء عصري تعقيباً على ابنه، موجهاً كلامه إلى صديقه: «كتب عن عشرات الشهداء، طباعهم ومناقبهم بأسلوب الكاتب المميز والقريب منهم، أنصفهم بالكتابة عن حياتهم ومناقبهم. وطرح عزو سؤالاً مهماً، الآن من سينصفه، ويكتب عنه وعن تربيته الوطنية لأبنائه، علماً أنهم جميعاً بين أسير وجريح ومطارد، وآخرهم اليوم محمد»، وقد جرّب عزو الإجابة عن السؤال الذي طرحه بنفسه: «لن يستطيع أحد إنصافه، ليس تقصيراً، لكن لا أحد لديه أسلوبه برواية سيرة الأبطال».
الإنصاف هنا مهمة مستحيلة. قبل أكثر من عشر سنوات، تعرّفت إلى عصري عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ومن القلة القليلة جداً، التي تحولت فيها الصداقة الافتراضية إلى صداقة فعلية، عبر الاتصالات الصوتية. تلمّست في تواصلي معه، الكثير من القضايا التي كانت ولا تزال تشغل باله، والأهم منها، قدرته على أن يكون واضحاً وشفافاً، يطرح ما لديه، بلغة واضحة بلا تردد، منسجماً بين قوله وفعله، ولا يخشى أي شيء.
اليوم ينتقل الصديق والأخ عصري الإعلامي والأديب المتميز، نحو مرتبة جديدة، يعيش همها مثقلاً بالألم والحزن، والثبات على المواقف، فهو الآن والد الشهيد محمد، الذي حمل ملامح والده، شكلاً ومضموناً، مثقفاً مشتبكاً على ثرى قباطية، يصرخ بأعلى صوته في لحظة الاشتباك رافضاً الاستسلام، ذاهباً نحو قدر اختاره عن وعي.
لن ينصف عصري سوى عصري، فقد كتب تعقيباً على نبأ استشهاد ولده محمد، واصفاً هذه اللحظة بدقة متناهية بالقول: «عَطرت جباهنا بالفخر، وزينت محيّانا بالاعتزاز، ونثرت أمامنا المستقبل فخاراً وعزّة» ثم يواصل «خمسة وعشرون عاماً هي قطعة من زمن هو الأجمل في ظلالك، وهي الأبهى مع ابتسامتك» ويختصر القول هنا: «كنت هيبة، ووعياً، وإيماناً، وجهاداً، ولا تسكت عن الحق، ولا تجامل فيه أماً ولا أباً، ولا قائداً، ولا مسؤولاً، ولا فصيلاً، ولا تنظيماً». هذا محمد المنتمي بكل معنى الكلمة، يعيش لحظة النقد، يخرج من كل أزقة الأيديولوجيا المظلمة إلى نور القضية دون مداراة، ومع هذا يفتش عصري عن تكوين ولده فيجده بالرغم مما سبق «خجولاً عندما يرتقي من معك، وأنت معهم كتفاً لكتف... الزرعيني حيث كنتما ثنائي الاشتباك، العرعراوي حيث كنتما ثنائي الالتصاق، بهاء والعزمي والفلو حيث كنتم عصبة الالتقاء، وخمايسة، والأيسر وكثير من الشهـداء، كنت تحار لماذا رحلوا وأبقاني الله بعدهم، حتى لحقتهم. وكأنهم ذهبوا ليعدوا لك المسكن والمأوى في جنات الفردوس الأعلى».
أي وصف، وأي إنصاف لسيرة الشهيد محمد، يستطيعه غير عصري، وليس من المفارقة أن يكتب قبل أيام قليلة في صفحات هذه الجريدة، مقالاً تحت عنوان «الأب الشهيد على خطى ابنه الشهيد» روى فيه، سيرة الشهيد وسيم أحد أبطال مخيم جنين الذي استشهد في إحدى الجولات المتواصلة من المواجهة مع الاحتلال، وسيرة والده الشهيد أمجد الذي لحق بولده وسيم بعد أشهر قليلة، في المكان نفسه، وفي لحظة اشتباك جديدة مع الاحتلال. فالكتابة وسيرة الشهداء الحارة دوماً في ثنايا كتابات عصري، تثبتان ثنائية الشهادة بالدم والكتابة.
أخي عصري، أختم قولي لك، بقول شاعرنا محمود درويش في قصيدته «القربان»: «واكتب الرؤيا على باب المغارة، واهدنا درباً سويّاً، وليحتفِل بك كل ما يخضرُ، من شجر ومن حجر، ومن أشياء تنساها الفراشة فوق قارعة الزمان قصيدة… وليحتفل بك كل من لم يمتلك ذكرى، ولا قمراً بهيّاً، لا تنكسر!».