استلهم فرانز فانون نظريته حول الاستعمار، من واقع استعمار فرنسا للجزائر، وبنى عليها تصوره وفهمه للوحشية الاستعمارية الغربية، وطرائقها في تعاملها مع شعوب مستعمراتها، وقدم إجابة شافية للتخلص من الاستعمار، عبر المقاومة والعنف والمواجهة.والسؤال عن جدوى العلوم الإنسانية في قراءة واقع الاحتلالات، وخاصة في التجربة الفلسطينية، يحمل أهمية قصوى، ولا سيما في مجال علم النفس الذي يقدم صورة مركّبة عن طبيعة الاستعمار، وأثره النفسي على الفلسطينيين. فما يطلق عليه مجازاً «علم النفس التحرري» ساهم في نشأته الأولى فانون. يساهم هذا العلم بالكشف عن الآليات التي يلجأ إليها الاستعمار لفرض واقع مصنّع، هدفه النهائي تأبيد الاحتلال، وإظهار أهداف المؤسسات الاستعمارية ورؤيتها وممارساتها بحق المستعمَرين، وفي حالتنا الفلسطينيين.
(رائد عيسى)

من المؤكد أن مؤسسات الاستعمار تستهدف على الدوام الجماعة والأفراد، بجملة من الممارسات المعروفة وغير المعروفة. فالسجن يعدّ الركيزة الأساس في بناء آليات التسلط والقهر المنظّم، فقد تجاوز عدد الفلسطينيين الذين تعرّضوا للأسر منذ عام 1967، المليون أسير، وحتى هذا الوقت. فالأسير الفلسطيني يمر عبر جدول منظّم لا يتوقف عن حدّ العقاب، عبر احتجاز حريته، بل يطاول بنيته النفسية للتأثير عليه سلبياً، وخلق أوضاع نفسية تؤدي بالأسير إلى المرض النفسي المزمن، ليرافقه حتى بعد الخروج من الأسر، فضلاً عن عائلات الأسرى، التي تعايش هذا الواقع وتأخذ منه نصيباً.
هذا الواقع السيئ على كل الصعد، لاقى مواجهة أيضاً من الفلسطينيين، فعبر سنوات طويلة من المقاومة، طوّر الشعب الفلسطيني آليات دفاع عن الذات الفردية والجماعية لمواجهة تلك الأنساق القهرية المنظّمة التي يتّبعها الاحتلال.
وهذا التطوير لآليات الدفاع، انبنى على مخزون تاريخي وقيمي وديني وذاكرة حيّة لدى الشعب الفلسطيني، أمّنت له إمكانات وقدرات للمحافظة على الذات، وتحمّل كل تلك الآلام النفسية التي حلّت به. ويمكن اختصار كل ذلك، بأنه فعل مقاومة يوازي مفهوم الحياة، في مقابل الاحتلال الذي يمثّل الموت في حال الاستسلام له. والحال نفسها في بناء المؤسسات العلمية والأكاديمية والسياسية والاجتماعية والثقافية الفلسطينية، التي تقوم فعلياً بمواجهة ما يقوم به الاحتلال من عمليات الهدم والتشويه للهوية والذاكرة الجمعية الفلسطينية.
صحيح أن «علم النفس التحرري» له مكانته في فهم الكثير من الجوانب التي تتعلق بأثر المستعمِر على المستعمَر، لكن هنا لا بد من القول إن خصوصية التجربة الفلسطينية في المقاومة والنضال والكفاح، جعلها مدرسة خاصة بحد ذاتها، فالمقاومة المتواصلة والدائمة منذ أكثر من قرن من الصراع، أثبتت أن الشعب الفلسطيني، رغم فقدان الحد الأدنى من موازين القوى، ورغم الكلفة الباهظة من التضحيات التي قدمها في معارك التحرير، إلا أنه طوّر قدرات ذاتية أهّلته للاستمرار في هذا الصراع، وتحمل عبء الحركة الصهيونية وكل القوى الغربية الداعمة والمساندة لها، ويفعل ذلك بينما يشقّ طريقه، وهو مدرك أن عملية التحرر قادمة لا محالة، فكل تجارب الشعوب التي سبقته ماثلة أمامه.
لقد سألت الكثير من الأسرى المحررين، والذين أمضوا سنوات طويلة في سجون الاحتلال عن أثر السجن عليهم، وكانت إجابتهم متفقة تقريباً، ومدهشة أيضاً، أن فعلهم كان خيارهم، وأن صمودهم في الأسر امتداد لتجربتهم النضالية قبل الأسر وبعده.
وبهذا نبتعد عن التوصيف المشار إليه في استخدام مفهوم الضحية السائد، والمرتبط بالعجز والدونية وقلة الحيلة. نعم الفلسطيني في واقعه مع الاحتلال ضحية، لكن الأمر لم يصل إلى حدّ الامتثال لما يريده الاحتلال، حتى في أحلك ظروفه التاريخية التي مرّ بها، سواء في النكبة والنكسة ومحرقة غزة المستمرة منذ ثمانية أشهر، أثبتت أن هذا الضحية عصيّ على الكسر والتطويع.
فهو الذي جمع بين الخيال الذي حوّله إلى واقع عبر مهاجمة المستعمرة في السابع من أكتوبر 2023، وبين قدرته على مواجهة آلة القتل المتطورة التي تحاول الفتك به، وهو يصنع ملحمته التي ستؤدي حتماً إلى النهاية التي يبتغيها.
فالاحتلال ليس مفهوماً لغوياً جامداً، يكتب في نص، أو مقدمة خالية من المشاعر في نشرة أخبار تستعرض واقع الفلسطينيين، إنه فعل دائم ومستمر منذ عقود، وله فعله الملموس على نفوس وأجساد وذاكرة من اكتووا بناره، وعاشوا كل لحظة من لحظاته.
وبذلك، فإن مفاعيل الحرب النفسية التي يشنّها الاحتلال على الشعب الفلسطيني إلى جوار باقي حروبه التي منها العسكرية، تخفق دوماً، وأكثر من ذلك، كما ذكرت أعلاه، الفلسطينيون طوّروا آلياتهم للمواجهة، ومنها، كما يفعلون عادة في مواجهة قنابل الغاز، إذ يطوّرون أدوات الوقاية من آثارها، مكنّوا أنفسهم من المواجهة، بقدرتهم على الحياة وإصرارهم عليها فوق أرضهم.