«يبدأ التصوير من استنطاق المظاهر الخارجية ومن رسم العلامات... وإذا اعتبر المرء المظاهر هذه بمثابة الحدود، فإن في وسعه عندها أن يقول إن المصوّرين يبحثون عن الإشارات التي تخترق الحدود: تلك الإشارات القادمة ممّا هو وراء المرئي. فليس السبب في ذلك أن جميع الفنانين أفلاطونيون، وإنما لأنهم يحدّقون تحديقاً مليّاً» - كمال بلاطة، مقتبساً جون بيرغر
«بورتريهات الحرب»، حبر وألوان مائية على ورق، 2023


«فني كئيب حزين وواضح، وهو يشبه وظيفة الفن في التفريغ والتعبير عن السلبية بداخلنا نتيجة للحياة القاسية. فني يشبه حياتي أو كيف أشعر عن حياتي، وغزة لها القصيدة كلها، ورغم الحرب المستمرة لديّ الكثير من الأعمال مبنية على مشاعر الراحة والحب».
بيان أبو نحلة فنانة تشكيلية فلسطينية، مواليد عام 2001 من قرية يبنا المهجّرة قضاء الرملة، عاشت طفولتها في مخيم يبنا في رفح جنوب قطاع غزة. تعمل في الفنون البصرية، وأكثر أعمالها حبر على ورق. ترسم منذ طفولتها، وكان لمركز راشيل كوري الثقافي قبل إغلاقه دور كبير في خلق ثقافة فنية في الرسم والمسرح والغناء لديها، ولدى عدد من الأطفال في رفح. في عام 2019 التحقت بدبلوم تصميم «غرافيك» في كلية «الأونروا».
تقوم أعمالها على توثيق اليوميات، وفهم المشاعر والأفكار اللحظية التلقائية عن طريق الورقة والقلم. لا تهتم كثيراً للوحات، رغم أنها رسمت لوحات على «كانفاس» وكذلك «فيديو آرت»، إلا أن سلسلة المشاهد الورقية من حبر وألوان المائية بقيت الأقرب إلى قلبها.

«سائق التكسي»، حبر وألوان مائية على ورق، 2023


منذ ولادتها، عاشت بيان عدداً من الحروب. عام 2008 كانت في الصف الثاني الابتدائي، وأثّرت الحرب في زرع الخوف لديها، وعام 2014 رأت الحرب كمغامرة، أما عام 2021 فكان أعمق خوفاً وأكثره صعوبة، حينها كانت عائلتها منتقلة حديثاً للعيش في حيّ تل الهوا في غزة، وهو منطقة مركزية، لذا أغلب الاستهدافات كانت فيه، وفي تلك الحرب، استخدم الاحتلال لأول مرة الأحزمة النارية، هددوا شقتهم، ورأوها تُقصف! استمر هذا الخوف الذي يظهر في أعمالها المرسومة بعد أيار 2021 في الشخصيات النازفة من عيونها وملامحها المليئة بالكدمات. أما الحرب الحالية، فكل شيء قد تغير، وتقول: «كل الأماني ونظرتنا للقضية ولفلسطين وللحياة قد تغيّرت، والشيء الوحيد الثابت هو الحقد».

«تدفق»، حبر وألوان مائية على ورق، 2023


دخلت بيان الوسط الفني في غزة عام 2019 حين بدأت حياتها الدراسية في كلية «الأونروا». بعد انتهاء دوامها بالكلية، كانت تذهب إلى مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، إذ كان هناك فريق فني شبابي اسمه «بنفسج» تحصل بين أفراده نقاشات، ورسم وفعاليات. وضمن «بنفسج» عرفت الفنان الشهيد محمد سامي قريقع والفنان خالد جرادة، وتعرفت على الفنانين الكبار أيضاً.
درست في ورش مجموعة «التقاء للفن المعاصر» في غزة مع فنانين عبر الاتصال الافتراضي، أهمها كانت ورشة الحفر والطباعة، أحبّت تقنية الحفر من حبها لاستخدام الجهد في العمل الفني، عكس الفن الرقمي الذي لم يستهوها كثيراً.

«استراحة على البحر»، حبر وألوان مائية على ورق، 2023


تقول بيان: «تشبه الشخصيات التي أرسمها الشخصيات من حولي، أغلب النساء في الأعمال شبهي أو شبه عائلتي وأقاربي، ووالدي، وغزة حاضرة كثيراً في أعمالي. وملامح الشخصيات مع الكدمات التي يتغيّر لونها بحسب المشاعر التي تظهر على وجوهنا بهذه الكآبة والحزن والنزف. وأحياناً تظهر العائلة أو الأمّ بالثوب المطرّز كدلالة فلسطينية». أما أحبّ اللوحات على قلبها فهي «زيتونة» المعروضة في «هذا ليس معرضاً» في المتحف الفلسطيني في بيرزيت. وفيها هذا الدمج ما بين فصلين بعيدين بعضهما عن بعض، الخريف والربيع. هذه الشجرة الجميلة وثمارها، كانت تمرّ بجانبها بيان حين كانت تعمل في جمعية «نوى للثقافة والفنون» في دير البلح، حينها كانت تقيم ورش رسم وفنون للأطفال واليافعين. وقد تكررت شجرة الزيتون كموضوع في الفن الفلسطيني، فكما تقول الفنانة سامية حلبي إن لشجرة الزيتون جمالاً قاسياً، ودوراً مهماً في التاريخ والاقتصاد الفلسطيني، وتضيف «عند عودتي إلى المنزل، كنت أرى جدة كبيرة في السنّ تلبس ثوباً قروياً، وكان يبدو عليها دائماً علامات القلق على أشجار الزيتون في حديقة عائلتها. فهي تنتمي إلى شجرة الزيتون بقدر ما تنتمي شجرة الزيتون إليها». أما عن فيرا تماري، فقد استخدمت شجرة الزيتون في عمل تركيبي بعنوان «حكاية شجرة» حيث صنعت تماثيل صغيرة لأشجار الزيتون من السيراميك، بألوان زاهية، وقامت بتشكيل الجزء العلوي من الشجرة ببصمات أصابعها. وهكذا تظهر شجرة الزيتون كأنها موضوع الرواية الفلسطينية الفردية والجماعية، وليست مجرد ديكور داعم للمشهدية.

«الزيتونة»، حبر وألوان مائية على ورق، 2022


شاركت بيان في أول معرض فني، كان ضمن معرض جماعي في مركز «رشاد الشوا الثقافي» عام 2022، وكان مع الفنانة الشهيدة حليمة الكحلوت، بدعم من الصليب الأحمر، تقول بيان «بعد الخذلان الذي تعرّضنا له خلال هذه الحرب من الصليب الأحمر، انتابني شعور بالندم للمشاركة معهم في يوم من الأيام، وها هم الآن يغضّون الطرف عن الإبادة الجماعية التي نتعرّض لها». وفي عام 2023 نظّمت بيان أبو نحلة معرضها الفردي الأول في مدينة بيت لحم، وكان قيّم المعرض الأكاديمي والمقتني الفلسطيني جورج الأعمى ومجموعة «باور»، وقد استطاعت من أجل هذا المعرض نقل أعمال فنية أصلية إلى بيت لحم.
أما عن المشاركة في أعمال عن طريق صور «ديجيتال»، فلها مشاركات عديدة مثل مشاركتها في متحف «السحاب» في فرنسا، و«المتحف الفلسطيني» في أميركا، وفي مصر وهولندا وكاليفورنيا.
وبعد عيش بيان أكثر من حرب، كان هاجس خسارة الأعمال الفنية جراء الحروب من أكبر مخاوفها، وهذا ما حدث تماماً، ففي الحرب الحالية، فقدت بيان أبو نحلة كل أعمالها وذكرياتها وبيتها وألبوم صور الطفولة الأغلى على قلبها، والذي منه استلهمت واحداً من أهم مشاريعها الفنية ضمن محترف «شبابيك للفن المعاصر».

«شارع عمر المختار»، حبر وألوان مائية على ورق، 2023


الشهيد محمد سامي
«قالت الأم:
لم أره ماشياً في دمه
لم أر الأرجوان على قدمه
كان مستنداً إلى الجدار
وفي يده
كأس بابونج ساخن
ويفكر في غده ...»
محمود درويش، حالة حصار
رغم صعوبة الحديث عن الفنان الشهيد محمد سامي قريقع، تقول بيان: «كنا في فريق واحد نحكي في الفن، وكنا صغاراً، وعرفنا الفن والوسط الفني معاً، رحل ضمن مجزرة غاية في القسوة والصعوبة، مجزرة مستشفى المعمداني، رحل محمد فيها. شكل الذاكرة يشبه شكل الحدث، لا أحد يتوقع أن مثل هذا الموت ينتظر محمد، مخيف وصادم فيديو قصف المعمداني، هل شعر بأنه استشهد؟ في صباح يوم المجزرة، نشر محمد على حسابه على إنستغرام فيديو في باحة المستشفى، وهو يقوم بأنشطة للأطفال، وفي المساء تحول برفقة مئات الأبرياء إلى أشلاء! محمد إنسان بسيط وحقيقي، ولم نكن ننظر لبعضنا بعض كفنانين، كان يليق له أن يكون منشّطاً للأطفال، فهو إنسان حيوي وكثير الحركة ومرح. كنا نزور بعضنا البعض كثيراً، وبالتحديد عندما كان لديه إقامة فنية في محترف شبابيك، حين كان يعمل على موضوع مكعب الروبيك، عبر ربطه بالمجازر المتكررة التي كانت تحصل على مكان سكنه في الشجاعية. وله أعمال في الموسيقى خلال الحرب، برفقة تامر كحيل، فالموسيقى تغطي على صوت الطائرة. وفي الذكرى الخمسين لاستشهاد غسان كنفاني، رسم محمد لوحتين تخليداً لذكراه، ضمن معرض لمؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، وهما الآن في المتحف الفلسطيني في بيرزيت. كنا قريبين من مقهى «الباقة» والبحر، ومن مستشفى الشفاء، ومن شبابيك والتقاء، وهي بيوت قديمة جميلة وبسيطة، كنا نذهب لنرى بعضنا ونحكي ونخربش، ولم نعط الفنانين الكبار أهمية، لأنهم بالعادة كانوا يعطوننا نصائح لسنا بحاجتها. منذ استشهاده، حاولت رسمه مرات، لكني لم أكمل أي لوحة بعد!»

حبر وألوان مائية على ورق، 2022


7 أكتوبر
منذ يوم «7 أكتوبر» خرجت بيان برفقة عائلتها من بيتهم في تل الهوا، وذهبوا إلى رفح، تقول: «أنا لن أستطيع أن أصف هذه الحرب، لأني في مرحلة صدمة، ولم أكن أتوقع أنني سأعيش إلى هذا اليوم! وأعمالي حتى الآن لا تعكس الذي حدث، ولا شيء ممكن أن يجسده أصلاً. ومن الممكن أن أرسم مشاهد من الحرب، لكن نتائج الحرب غير ممكن أن تظهر بسرعة في العمل الفني. والفن في الحرب قيمة فائضة عن الحاجة، ورفاهية غير مرتبطة بما يحدث، رغم أهميته في توثيق المشاعر والأفكار اليومية».
حين نزحت من منزلها، أخذت معها دفتراً وأقلاماً وألواناً مائية، وبدأت بالرسم يومياً، لكن خسارة البيت والأعمال الفنية والحاسوب الذي يحتوي على صور أعمالها الفنية، وصورهم العائلية وذكرياتهم، أفقدها أملها وثقتها بالفن والمستقبل، وحين رأت بيتها في صور لجيش العدو، وكان ثكنة عسكرية ومكاناً لتموضع القناصة، علمت أنها لن تعود إلى هذه الذكريات، وأن بيتها انتهى كمكان دافئ يحتوي على ألبوم العائلة كفعل يومي، ولم تكن تتوقع نهائياً أنها ستخرج من غزة بعد خمسة أشهر من الحرب.

بدون عنوان، حبر وألوان مائية على ورق، 2024


خاتمة:
عاش أهل غزة أقسى درجات الخوف التي وصل إليها الكائن البشري، درجة الخوف من أنك ستموت في هذه اللحظة، أو أن كل من حولك سيموتون، عدا عن صوت القصف المرعب لدرجة التبلّد. وأصعب اللحظات تلك، حين سماع خبر استشهاد أحدهم، أناس غير متوقع أنهم سيموتون، كما تقول بيان، وكذلك عندما تتخيل كيف استشهدوا، من بقي منهم تحت الأنقاض حتى آخر نفس أوكسجين ممكن، أو ماتوا من وجع ثقل ما ألقي عليهم. أنواع متعددة من العذاب لا يمكن إدراكها أو التعبير عنها.
في النزوح ظهر شخص في أعمالها الفنية، وهو يجسّد العديد من أهل غزة في فترة الحرب في الشتاء، وفي رفح تحديداً حين كانوا يلبسون طبقات من الملابس، منهكين وتائهين، والسيارة المليئة بالأغراض كتجربة مشتركة للجميع. أما عن رسمة «welcome Gaza» فكانت رسمة لطيفة في أحلى مراحل حياتها قبل الحرب، وعند الحرب، ومع تجارب الفقد والنزوح والخوف والموت، وأخيراً اللجوء إلى دولة أخرى، تغيرت اللوحة لتصبح «Good Bye Gaza» وهذا الوداع والحزن، كأنه نهاية فيلم درامي مليء بالفراق. تماماً مثل اشتياقها الحالي لمقهى «الباقة» هذا المكان الجميل المطلّ على البحر الذي كان يحتويها طوال أيام العام والكثير من أعمالها التي رسمتها فيه. أعمالها التي بأبسط تعبير عنها، إنها من فلسطين ولفلسطين، وتنتمي إلى هذا العشق الذي يسمّى فلسطين.

«Goodbye Gaza»، حبر وألوان مائية على ورق، 2024