كم وصفوا غزة بـ«السجن الكبير»؟ هو توصيف دقيق وسط الحصار والعدوان المستمر، فهل يمكن اعتبار ثورة «طوفان الأقصى» عملية لتحرّر أهلها قبل تحرير فلسطين وأسراها؟ هنا تختلف الأوصاف والتوصيفات لما حصل ويحصل، ولكن بالتأكيد كان سعياً إلى نيل الحرية، أي حرية الشعب المسجون وكسر القيد الجماعي. والأهم أنها عملية تكسر الصندوق وما حوله، وغيرت المعادلات في الإقليم ولاحقاً في العالم.
■ ■ ■

انتزع ستة أسرى فلسطينيين حريتهم في أيلول 2021، عبر عملية عبقرية معقّدة. هربوا من الزنازين الانفرادية إلى السجن الجماعي، وفيه أعيد اعتقالهم. هي تجربة تثبت أنّ محمود العارضة وصحبه يحاطون بحلقات أو متاهات هندسية نفسية، يخرجون من واحدة ليجدوا أخرى. وهذا يعرفه المحرّرون الستة، لذلك لم يخرج منهم أي عتب لمن يفترض أن يحميهم: هم يعرفون أن أبناء شعبهم تحت قيد الأسر أيضاً.
■ ■ ■

حالياً، في الضفة الغربية أكثر من 804 نقاط تفتيش للاحتلال، إضافة إلى قطع الطرق والحواجز الثابتة والمتحركة. تحولت كل قرية أو مدينة إلى سجن غير مرتبط بالسجن القريب. الفارق أن هذا السجن شبه عائلي. الانتقال من قرية (ليس من محافظة) إلى أخرى، أشبه بخروج الأسرى إلى ساحة السجن ساعة الشمس. هكذا جيش الاحتلال ومستوطنوه يأسرون أهل الضفة والقدس، وإذا كنت سجيناً مطيعاً وعمرك البيولوجي يطابق المعايير، يمكن السماح لك بالتوجه إلى المسجد الأقصى. هذه مكرمة استعمارية لا يمكن أن تتكرر دائماً.
■ ■ ■

دائماً، يعيش فلسطينيو عام 1948 في سجن من طبقات متعددة: الخوف المستمر، الهوية المسلوبة، الشك المتواصل، هاجس الأولويات... وغيرها الكثير. هكذا فلسطينيو الشتات في أوروبا وأميركا. أما الفلسطينيون في الدول العربية، فيقبعون في سجن من نوع آخر: يكفي أنّ غالبيتهم مسلوبة الإدراك والوعي، والممنوعات تكثر من بلد إلى آخر، تبدأ من منشور على «إكس» إلى الطرد من العمل والحرمان من الإقامة. أما في دول الطوق، فتتباعد السجون جغرافياً وربما ثقافياً. هي معازل محاطة بالعسكر والاستخبارات والقوانين غير الإنسانية، وفي لحظة تتحول إلى ضحية تجاذبات ومشاريع دولية ومحلية.
■ ■ ■

غالباً، هناك سجن فيه القيادة الفلسطينية بمختلف فصائلها. كل فصيل له سجنه الإقليمي. سجّان يتحكم في السلوك والقرارات والإرادات والصادرات والواردات. يحاول البعض الإفلات من هذا التوازن أو الخلل، ولكن لا إرادة ذاتية. فالسجن هنا، ليس جدراناً إسمنتية، وكاميرات مراقبة ومجسات حرارية، إنما هو حبس وهمي صنعه صاحبه، وهذا أخطر أنواع الاعتقالات.
■ ■ ■

غداً، يحطّم هذا الشعب هذه السجون المتنقلة. لكن الخوف أن تتغير شخصيته وسلوكه. يقول الكاتب الإنكليزي كريستيان جاريت: إن «الحياة خلف القضبان، إذا طالت مدتها وزادت قسوتها، قد تؤدي إلى تغيير شخصية السجناء». ويذكر عالم النفس الاجتماعي الأميركي كريغ هاني (شارك في تجربة سجون ستانفورد الشهيرة حيث أثارت انتقادات واسعة بسبب أساليب التعذيب النفسي التي استُخدمت فيها): «تجربة السجن تغيّر السجناء كلياً وتؤذيهم، ولا يسلم من أذاها إلّا القليلون». هذا التغير الموعود يؤدي حتماً إلى حالة ثأرية شخصية، فكيف إذا تحولت إلى جماعية؟ هذه السجون للشعب الفلسطيني سيدفع ثمنها السجّانون لاحقاً، فإذا تحررت فلسطين وعاد هذا الشعب ليحكم نفسه بنفسه، سيكون عدوانياً ومن المرجّح أن يتوسع بالجغرافيا والنفوذ السياسي. لكن الأهم هو التخلّص من زنازين الشعب الكثيرة والمتنقلة لتكون حرية الوطن.