في اللحظة التي بدأت بها قوافل المهجرين تخرج من أحياء مخيم جنين، باتجاه المدينة وأريافها، أعلنت حالة استنفار شعبي في كل المحافظة، وتجند المئات من الشبان من داخل المدينة وخارجها، لتأمين كل مستلزمات المهجرين، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي امتلأت صفحاتها، بإعلانات تتحدّث عن توافر مستلزمات الحياة كافة لهؤلاء النازحين، من مأكل وملبس ومسكن.جميع تلك الإعلانات التي كانت وليدة تلك اللحظة، تترجمت على الأرض، والدافع واضح وجلي، فأهل المخيم قدموا الغالي والنفيس، وخيرة الشباب في قتال مع المحتل، وأبسط ما يقدّم لهم هو الاحتضان. الضمير الجمعي، والوعي الشعبي، كان السبّاق في التقاط اللحظة، فمشهد العز الذي سطّرته ساحات المعركة في المخيم، كان تعبيراً عن الكل الفلسطيني.
يقول إبراهيم محمد لـ «الأخبار»، وهو أحد المشاركين في اللحظة الأولى لاستقبال المهجرين في المدينة: «لقد ذهلت من المشهد العام، بعد أن رأيت المئات من الشبان قد سبقوني للاستقبال، ومعهم كل ما يلزم اللحظات الأولى، من سيارات خاصة، وماء للشرب، والكثير من المواد الغذائية، إضافة إلى توفير كميات كبيرة من الملابس الجديدة ولمختلف الأعمار، خاصة أن المهجرين خرجوا من منازلهم لا يحملون أي شيء».
تطورت بعد اللحظات الأولى حالة النفير العام بين الأهالي، خاصة بعد إعلان الاحتلال انسحابه من المدينة والمخيم، فالعمل الإغاثي بالنسبة للفلسطينيين، له تاريخ طويل، لكن ما يميز هذا العمل بالتحديد، كما يقول أسامة وليد، أن «الاستجابة الشعبية السريعة والمنظمة أتت بعيداً عن كل الأطر الرسمية، وهذا عامل لنجاحها، فالاحتلال تقصّد من خلال فرض عملية التهجير على أهالي المخيم، كسر المقاومة، عبر التأثير على الحاضنة الشعبية لها، وهم في هذه الحالة سكان المخيم، وإذ بالحاضنة تتوسع، ليصل مداها الأوسع والأرحب، وتطال مختلف محافظات الضفة الغربية». ويشار هنا إلى أن أصحاب المحال التجارية في كل مدن الضفة، وكذلك بلديات المدن والقرى أعلنت في الأيام الأخيرة عن حملات إغاثية لجنين، عبر جمع المواد العينية للمدينة ومخيمها.

بعد انسحاب قوات الاحتلال
لم تصدر إحصاءات دقيقة، لحجم الخسائر المادية التي حدثت نتيجة المعركة، لكن التقديرات تشير إلى وجود أكثر من 300 منزل تضرّر من القصف (يشمل الضرر الكلي أو الجزئي)، في حين قامت جرافات الاحتلال بتدمير كل الطرق التي تصل إلى المخيم وحتى الشوارع التي تصل المخيم بأحياء الهدف والجابريات، إضافة إلى تعطيل شبكة المياه والكهرباء وقطعها عن المخيم. وتشير بعض البيانات الصادرة عن بلدية جنين أن حجم الخسائر الناجمة من العملية العسكرية الإسرائيلية، على جنين ومخيمها، تقدر بـ 15 مليون دولار، في حين أشارت الفاعليات الاقتصادية أن الخسائر الكلية المباشرة وغير المباشرة تجاوزت الـ 40 مليون دولار.
وأمام هذا الكم الكبير من الخسائر، لا تستطيع الحملات الإغاثية وحدها أن تسد تلك الفجوة، كما أكد لـ «الأخبار» الناشط سائد الغالب: «الهدف من كل الحملات الإغاثية، هو إيصال رسالة إلى المحتل، وإلى كل معني بالأمر، أن المقاومة في جنين هي العنوان الفلسطيني الأول لوحدتنا، وقد كشف حجم التفاعل الشعبي في العمل الاجتماعي والتطوعي والإغاثي، مدى ارتباط الكل الفلسطيني بحالة المقاومة، يكفي أن تشاهد إزالة آثار المعركة في كل شوارع المدينة والمخيم من قبل الشبان في الساعات الأولى لانتهاء المعركة لتدرك عظمة الشعب الفلسطيني، لقد وصل العشرات من الشبان من الخليل والقدس ونابلس وحتى من مدن الداخل المحتل للمشاركة في هذا الواجب». وفي سؤالنا عن مدى ديمومة هذا الفعل، وهل يتعدّى لحظة التأثير العاطفي، أشار سائد إلى أن هذا الأمر أكبر من لحظة عاطفية، كما أنه تحديد مسار: «الشعب الفلسطيني يريد المقاومة، والمقاومة هي الوحيدة التي تحميه، والواجب الوقوف معها، انظر إلى كل مخابز المدينة توزع الخبز المجاني على الجميع، وكذلك الكثير من المحال التجارية، تحديداً محال المواد الغذائية. ربما يكون هذا الفعل من قبل أصحاب تلك المحال، وربما بتمويل من بعض رجال الأعمال، لكن لا فرق، فالضفة لم تشهد هذا التعاضد منذ سنوات طويلة، وهذه اللحظة لا يمكن التفريط بها، لأن اللحمة هي التي ستمكّننا من مواصلة طريق النضال والكفاح، لقد كشف الفلسطيني عن وجهه الحقيقي».
المرأة التي كتبت الورقة للمقاتلين في المخيم، كتبت البيان الأول وحددت الأولويات، «الأكل والمال والبيت، فدا المقاتلين»، و«الإنسان المقاوم وبارودته هي الأصل والبوصلة»


أمّا الناشط رؤوف طحاينة، فقد أشار بدوره إلى نقطة في هذا السياق: «لقد قرأ الفلسطيني جيداً أهداف الاحتلال من هذه الحملة، واطّلع على دفاتره كلمة كلمة، وعمل بعكسها تماماً، وهذا ما يؤرق المحتل اليوم؛ فالمعركة خسرها في الميدان، وفي ساحة الوعي». وبعد أن هُزمت جميع أهدافه، واستخلاصاً للعبر، يقول المحامي أحمد شواهنة: «الاحتلال يخشى حالة الاحتضان للمقاومة، وحالة التكافل الاجتماعي والإنساني بين الناس، كما يخشى العبوات التي مزّقت جنوده ودمّرت آلياته. الحاضنة الصادقة ضمانة حقيقية وخير مُطلق للجميع؛ حمى الله أبطال الكتيبة ورفاقهم». ويرى شواهنة أن المطلوب الآن من الكل الفلسطيني وعلى رأسهم السلطة أن «يتم بناء ما دمّره الاحتلال في مخيم الصمود والمعجزة في وقت قصير جداً، وعدم المماطلة والتسويف في تعمير ما دمره العدوان وتعويض الناس عن ممتلكاتهم التي تم تدميرها في هذه الحرب غير المتكافئة».

العمل الطوعي عمود المقاومة
في التجربة السابقة، وفي السنوات التي سبقت اندلاع الانتفاضة الكبرى انتفاضة الحجارة عام 1987، تشكّلت حركات شبابية تطوعية، انخرطت في ميدان العمل الشعبي والإغاثي، وتحوّلت في لحظة الانتفاضة لتكون العمود الفقري لكل الفصائل الفلسطينية في الضفة وغزة، وعلى أكتاف تلك الحركات الشبابية (حركة الشبيبة للعمل الاجتماعي، لجان العمل التطوعي والكتلة الإسلامية) أخذت الانتفاضة مدّها ومداها. فكل القوى الفلسطينية تدرك، ومن خلال التجربة، أن حاضنتها الشعبية هي العنصر المركزي والأساس في ديمومة الصراع مع المحتل، ومن دون تلك الحاضنة لا يمكن الاستمرار بإدارة الصراع. وربما هذه اللحظات اليوم تفتح الباب للوصل بين القوى النخبوية ومجتمعاتها المحلية، التي لا تطلب الكثير، فالمرأة التي كتبت الورقة للمقاتلين في المخيم، كتبت البيان الأوّل وحددت الأولويات: «الأكل والمال والبيت، فدا المقاتلين»، و«الإنسان المقاوم وبارودته هي الأصل والبوصلة». صحيح أن الكلمات كانت قصيرة ومقتضبة، لكنها لخّصت الموقف ونطقت بكل إرادة الفلسطينيين، وصاحب القول لا يهزم مهما تنوعت المصاعب ومهما تجبّر الاحتلال.