قيل إن ما فعله محمد صلاح لا بد وأن يكون وراءه تنظيم ما، وقال المرجفون إن ما فعله لا يعدو أن يكون هبة شعواء تفتقر إلى التخطيط والرؤية، وحاول بعض الذين يعشقون نظام الدولة الحديثة ومؤسساتها نسبته إليها حتى كأن الأوامر صدرت بتنفيذ العملية من القيادة العليا للجيش، بينما احتفى آخرون بعفوية ما فعل وعدم ارتباطه بأي فرقة أو اتجاه.كل هذه المقولات يغيب عنها أن الشهيد تصرّف وحده كتنظيم كامل: خطّط وأعدّ، عرف أي نقاط الحدود آمنة فعبر منها، هاجم هدفه بدقة فقتل اثنين من جنود العدو، ثم ربض على أرض فلسطين إلى أن جاءته دورية من جيش الاحتلال فتبادل إطلاق النار معها إلى أن استشهد.
ثمة عفوية جميلة، وثَم انفعال صادق ضد الغاصبين، ولكن لا انفعالية ولا جنون في ما فعل، بل «سبق إصرار وترصّد» وتخطيط وتنفيذ «بدم بارد» إن جاز التعبير، إلى أن قتل الصهاينة «صبراً» بحسب التعبير التراثي.

يشهد على ذلك تاريخ الشهيد على وسائل التواصل الاجتماعي، من منشوراته التي تشير إلى بحثه عن العدل والخير إلى تغريدته التي أصبحت شهيرة بعد استشهاده والتي قال فيها: «الله مع فلسطين».
لا يبدو قرار العملية وليد اللحظة، بل كان متجذّراً في وعي الشهيد، الإسلامي والوطني والإنساني، وما قيل في الإعلام عن أن زميلاً له استشهد على الحدود ولم يذع الأمر، وما قيل عن أنه تغيّب عن موقعه من بعد استشهاد زميله ولم يعد إليه إلا في يوم العملية، كلها تؤكد أن نية الشهيد كانت مبيّتة للقيام بالعملية.

خطوات على طريق الوعي
ما قام به الشهيد استثنائي و«نوعي»، ولكنّ استثنائيته لا تكمن في القطيعة مع ما سبق، بل في كونه تطويراً لوعي، فردي وجماعي، يتضامن مع فلسطين ويرفض «إسرائيل».
ولأن العملية، على استثنائيتها ونوعيتها، تنبت من هذا التراب، وقبل أن نعرف من هو أو نعرف تفاصيل العملية، ربط الوجدان الشعبي المصري والعربي بينه وبين سليمان خاطر. التشابه واضح كما أن الربط ضروري لفهم حالة الوعي المتصل التي قدّمت لنا البطلين، والربط طبيعي كذلك لأن سليمان خاطر قد خلد في مخيلتنا بقصيدتين رائعتين، إحداهما عامية كتبها محمود الطويل وغنّاها الشيخ إمام، وأخرى فصحى كتبها مظفر النواب وكلتاهما انتشرت في أعقاب العملية على وسائل التواصل الاجتماعي.
ومثل محمد صلاح حاولوا تصوير سليمان خاطر انفعالياً وقيل إنه أطلق النار على الصهاينة لأنه وجد بينهن نساء أشباه عرايا، بينما كان دفاعه شديد العقلانية إذ قال إن الذين أطلق عليهم النار تقدّموا إلى مواقع عسكرية لا ينبغي لأحد أن يراها، وذكّرهم في الدفاع بحادثة امرأة «إسرائيلية» أغوت ضابطاً ليدخلها إلى موقع عسكري ليتضح بعد ذلك أنها جاسوسة، ثم قال إن الحكم عليه سيجعل الجنود المصريين يتردّدون في الدفاع عن مواقعهم بعد ذلك.
ولكن، إن كان محمد صلاح قد سار على نهج سليمان خاطر، فإن ما فعله يمثل خطوة متطورة في هذا النهج، وأخشى أن يؤدي بنا الإغراق في اجترار ذكرى سليمان خاطر إلى الغرق في الماضي والنظر إلى الوراء بدلاً من النظر إلى الأمام كما فعل الشهيد. فسليمان خاطر أطلق النار على الصهاينة الذين جاؤوا إليه بينما عبر محمد صلاح الحدود وطلبهم. وسليمان خاطر دافع عن نفسه أمام المحكمة بأن ما فعله كان من باب الحفاظ على النظام والأوامر: وإذا كانت الحدود والنظام موقعاً يمكن أن نتمترس فيه، في بعض الأحيان، في وجه الاستعمار، فإن محمد صلاح قد تخطّى هذا المتراس ليحارب في موقع الطليعة.
قد يكون الفارق أن سليمان خاطر قال ما قاله في صدد الدفاع عن نفسه أمام المحكمة العسكرية فاضطر أن يصيغ دفاعه وفق منطق النظام والقانون والخدمة العسكرية. أمّا محمد صلاح، فإنه باستشهاده في الميدان قد ترك لنا حكاية بطولة تتحرر من هذه الضوابط والقيود.
ربما. وبغضّ النظر عن النوايا، فإن ما أحدثه وما يمكن أن يحدثه محمد صلاح في الوعي يأخذنا إلى مرحلة جديدة أكثر تقدّماً عن ذي قبل. ما تركه من أثر دليل على أن العملية، وإن نفّذها وحده، لم تكن فردية، فكما نبتت من الوعي الجماعي فإنها تصبّ فيه.

«إلى كل إسرائيلي ابن وسخة»
بعد استشهاده انتشر مقطع، قيل إنه سجّله صباح يوم العملية، بينما يشكك البعض في نسبته إليه، يقول فيه (هو أو شبيهه): «كلام إلى كل إسرائيلي ابن وسخة. أنا جاي الجيش النهاردة. اللي هالمحه عالحدود، هاركبه عالعمود. وتحيا جمهورية مصر العربية». هذا الفيديو إن صحت نسبته إلى الشهيد يشير إلى النية المبيتة للعملية وإلى ارتباطه بوعي شعبي يعبر عن نفسه بمصطلحات عامية -قد يجدها البعض سوقية- بالعداء مع الصهاينة؛ وإن لم يصح فهو دليل على حالة الوعي التي قد ساهم في إحيائها. وفي كل الحالات هو جزء ملموس من الذي أحدثه على مستوى الوعي.
يقول مظفر النواب في قصيدة عن شهيد مصري آخر: «أنت مصر التي تتحدى، وهذا هو الوعي حد الخرافة»، ولم يكن غريباً أن نتذكر هذه القصيدة أيضاً في سياق العملية التي نفّذها محمد صلاح. وبغضّ النظر عن التأثير الميداني المهم للعملية، فإن تأثيرها الأهم، في رأيي، هو في معركة الوعي والحرب النفسية. فعلى جبهة العدو، أعادت العملية التأكيد على أن الصهاينة ليسوا مقبولين ولن يعيشوا في أمان مهما أقاموا معاهدات سلام مع الحكومات ومهما نشروا من متحدثين بالعربية باسمهم على وسائل التواصل الاجتماعي. هذه تفصيلة شديدة الأهمية لأن إحدى ركائز الصهيونية هي الادّعاء بأن «الوطن القومي لليهود» هو سبيلهم للأمن، بينما تعيد العملية التأكيد على أن لا أمن في وطن قومي في بيئة معادية.

«وهذا هو الوعي حدّ الخرافة»
أمّا عندنا، فقد أعاد محمد صلاح إحياء شيء كان كامناً. لم تغب فلسطين عن قلوب عموم المصريين وعقولهم يوماً، ولم يقبل المصريون بالصهاينة أو ينسوا ثارات فلسطين وثارات مدرسة بحر البقر ومصنع أبو زعبل والأسرى الذين قُتلوا ودُفنوا في رمال سيناء؛ ولكن طول الأمد مع دعاوى التفوق الصهيوني وحالة السلام الرسمي مع العدو يضع الجماهير في موقع المتفرجين، السلبيين في أكثر الأحيان. «ماذا عسانا نفعل؟»، يقول المصريون وقلوبهم تحترق على ما يحدث لإخوانهم ولمقدّساتهم. ثم جاء محمد صلاح لينقل هؤلاء المتفرجين إلى خانة المبادرين الفاعلين، أو القادرين على الفعل، على الأقل بوساطة واحد منهم، استثنائي وعادي في الوقت ذاته.
لن يزحف عموم المصريين إلى الحدود مع فلسطين صباح الغد، وليس هذا هو المطلوب في الوقت الحالي، ولكن بطولة محمد صلاح قد جدّدت ارتباط المصريين بفلسطين وبالصراع مع الصهيونية، حتى النصر والتحرير.