بين الرابع من حزيران والخامس منه، مسيرة لا تقاس في عمر الشعب العربي، بالدقائق والساعات، إنها لحظة لا تزال جاثمة على الصدور، منذ أكثر من خمسة عقود ونصف عقد، تتجدّد ذكراها مطلع حزيران من كل عام. عام النكسة الذي هزم فيه العرب جميعاً، في لحظة أرادوا فيها التخلص من الاحتلال القابع في الوطن، وإذا به يتمدد ويبتلع ما تبقّى منه، وزيادة بعض الأراضي العربية في سوريا ومصر ولبنان.
وأنا المولود على «الخط الأخضر»، أو ما يُطلق عليه خط الرابع من حزيران، وفي تسميته المحلية «الحد»، أجد نفسي بعد كل هذه السنين، المجاور دائماً لكل التسميات الملتبسة، التي تقول ولا تقول في الوقت نفسه، ففي الغرب من مدينة جنين، الملتصقة بـ«الخط الأخضر»، الذي لا نراه إلا في التسمية السياسية فقط، نجد صورة الوطن واحدة، من مرج بن عامر، مروراً بمدينة العفولة، وصولاً إلى الناصرة، لا حاجز أمام النظر، فمن جنين يمكننا أن نرى أيضاً سلسلة جبل الشيخ في يوم ربيعي مشمس.
في عام 1967، كانت فلسطين على موعد مع الهزيمة الواضحة كما الشمس، أمي التي عادت بعد 20 عاماً لترى منزلها في مدينة حيفا، وقفت أمامه وهي لا تستطيع الدخول إليه، لأن ساكناً جديداً جاء من بلاد الغرب منعها من الدخول، حاولت أكثر من مرة، لكن كل محاولاتها باءت بالفشل، فاللص لا يريد مجابهة الحقيقة. مع هذا، حمدت أمي الله لرؤية البيت بعد هذا الغياب، ففي الهزيمة أيضاً حدثت بعض «الميزات»، لو لم يصل الاحتلال إلى جنين، لما أعادت أمي الوصل مع حيفا من جديد، وحال أمي حال الكثير من الفلسطينيين الذين تقطّعت بهم السبل عام 1948، فمن غير قصد «أعاد» الاحتلال لمّ شملهم، فالتقوا بعد عام 1967، وتصاهروا من جديد.
اليوم، وعلى بعد 56 عاماً على النكسة، آلاف العائلات الفلسطينية في الوطن المحتل ناتجة من زواج بين تلك المناطق، فتنبّه الاحتلال متأخراً لوجود عشرات الآلاف من المواليد، لآباء وأمهات من الضفة الغربية وقطاع غزة ومناطق 48، فسنّ قانون «لمّ الشمل»، وبموجبه حرم الآلاف من العائلات الفلسطينية من حق العيش معاً في المكان الذي تريده.
منذ عقود والاحتلال مشغول دوماً بهاجس وحدة الشعب الفلسطيني، الجغرافية والاجتماعية والتعليمية والثقافية، وهذا الهاجس دفعه في العقدين الماضيين إلى سنّ عشرات القوانين العنصرية التي أراد منها إحكام سيطرته على الأرض والإنسان. فالعقل الاستعماري الإحلالي، لا يمكنه رؤية المشهد المقابل، ففلسطين اليوم عامرة بأهلها من النهر إلى البحر، ولم يعودوا أقلية في بلادهم، بعد أن طفح الميزان الديموغرافي لصالحهم قبل أعوام.
بعد النكسة أصبحت القضية أكثر وضوحاً، فهي ليست صراعاً على حدود، وليست قضية معيشية، فهي بالجوهر قضية شعب تعرّض للظلم والقهر


قبل النكسة كان الفلسطيني يعيش في أقفاص متباعدة ومعزولة عن بعضها، ممنوع عليه اللقاء، سواء داخل الوطن أو في مخيمات الشتات، أمّا بعد النكسة، فقد خرج الفلسطيني من أسره، بعد أن خلع تلك الأقفاص والجدران، فأعلنها ثورة، ونازل المحتل في معركة الكرامة شرق نهر الأردن، لتبدأ معها رحلة البحث الحقيقية عن الهوية والوطن. مسيرة الأشواك التي سار عليها الشعب الفلسطيني عمّدها بعشرات الآلاف من الشهداء، ليمضي بالقضية من قضية لاجئين إلى قضية شعب يريد التحرير والحرية.
بعد النكسة أصبحت القضية أكثر وضوحاً، فهي ليست صراعاً على حدود، وليست قضية معيشية، فهي في الجوهر قضية شعب تعرّض للظلم والقهر. وبعد «أوسلو» ورهان القيّمين عليه، بأنه سيفتح الأفق لاستعادة الحقوق، تبيّن أن الأمر عكس ذلك تماماً، فقد تحوّل الاتفاق إلى فخ أراد مهندسوه صناعة نكبة ونكسة جديدتين. فأعاد الاحتلال فتح دفاتره القديمة، فبنى الجدران، والمستوطنات، وكثّف من وتيرة الهيمنة والسيطرة، ففُصلت غزة عن الضفة مرة أخرى، وفُصلت الضفة عن قدسها، وفُصلت مجدداً الأراضي المحتلة عام 1948 عن باقي جسدها، ليبدأ الفلسطيني من جديد رحلة البحث عن مخرج لمتاهة «أوسلو» التي أوقعه فيها قادته هذه المرة.
من تداعيات النكسة مباشرة، أن انضمّ المئات من فلسطينيي الداخل المحتل إلى الجامعات الفلسطينية في بيرزيت وبيت لحم والخليل ونابلس، وتخرّجوا فيها، فساعدهم ذلك بالتمامهم مع أبناء شعبهم في تفكيك «الأسرلة» التي سعى الاحتلال لجعلها ذهنية لدى الفلسطينيين في الداخل، وتمكّن الفلسطينيون من إعادة تشكيل صورة واضحة لهويتهم العربية الفلسطينية التي يستمرون بالدفاع عن عروبتها، وتحول بعضهم إلى قادة وكوادر في الأحزاب السياسية المعبّرة عن الهوية الوطنية الفلسطينية العربية. تستوعب الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية اليوم آلاف الطلبة من الداخل المحتل. يحدث هذا بينما يعمل الاحتلال جاهداً لخلق الفصل، لكن محاولاته تُجابه بمقاومة فلسطينية عنيدة، ويتزامن هذا الأمر مع قناعة باتت كالبديهة عند قادة الاحتلال، هي أن الهوية الفلسطينية متجذّرة في وجدان كل الفلسطينيين، ولا يمكن محوها. أمام ذلك، كان السعي لديه بالقفز عن حقوق الشعب الفلسطيني بعمليات التطبيع مع النظم العربية الرسمية. لكن بعد 56 عاماً على النكسة، يباغته الفتى المصري الشهيد محمد صلاح، على الحدود الجنوبية لفلسطين، ويوقع في جنوده قتلى وجرحى، وكأن في هذا العمل الكبير رسالة واضحة وصلته، قرأها جيداً. وصف الاحتلال العملية بالمؤلمة، وعلى ما يبدو ألم هذه العملية يفوق خسائره البشرية التي تكبّدها، فالمؤلم هنا في عقل الاحتلال يعني أن كل ما بناه في العقود الماضية كان وهماً، وهذا تماماً العنوان الذي وضعه المحلل السياسي الإسرائيلي حاييم ليفنسون في «هآرتس» قبل أيام حين قال: «اتفاق السلام مع مصر هو اتفاق وهمي» (7/6/2023)، والذي كتب في مقالته: «لا يوجد سلام بين الشعبين. لقد زرت مصر في الماضي كسائح وكصحافي. الإسرائيليون غير مرغوب فيهم هناك، والمصريون لا يزورون إسرائيل. والعلاقات التجارية بين البلدين تجري في الخفاء».
في الخامس من حزيران هذا العام، تقف فلسطين بأهلها الشجعان ولا تراودهم الشكوك أن يوم حريتهم قادم، وأن منظومة الاحتلال ستُفكك حتماً، وأن الناظر إلى صراع اللصوص في بيت الاحتلال، يرى أن أعمار الغزاة قصيرة، حتى لو ظنوا أنها ستطول.
في ذكرى النكسة، ذكرى حزيران، سلام على الشهداء الذين عبّدوا الدرب لشعبهم، فما كُتب بالدم، لا يمحوه حبر الاتفاقيات، فمداد الدم أقوى، فهو يحمل الذاكرة ويبقيها، قنديلاً في سماء فلسطين وكل أرض محتلة.