عودة لأوّل التّسعينيات حيث بدأ جيلنا في تونس يعي العالم من حوله، حيث كانت «البورقيبية» قد أحكمت قبضتها الأيديولوجيّة نهائيّاً على تونس، لم يكن هناك شيء كثير لِنتحسّر عليه، فرؤية البورقيبيّة مِن أسفل، ليست مثل رؤيتها من أعلى، والحكايات التي نسمعها عبر الراديو والتلفاز، أو ندرسها في المدارس عن تونس الجميلة، بدت لنا أشبه بالخرافات منها للحقيقة، فبالنّسبة إلى من يجمع كلّ الهويات المنبوذة في العالم (عربي، أفريقي) والهويّة الدُّنيا في الوطن (ريفي/ فلّاح)، كان العالم ضيّقاً بنا وجاثماً بثقله علينا.لم يكن الزّمن بعيداً عن انقلاب ابن علي، ولا عن تفكّك الاتّحاد السوفياتي، وإعلان فوكوياما «نهاية التّاريخ». لم نسمع بشيء عن هذه النهاية، لكنّنا حدثناه في التعاقب الرّتيب للأيّام، وثبات الأحوال على ما نراه عِياناً، وما نسمعه بشكل شذري في التّلفاز الذي اقتحم حياتنا حديثاً. يقوم عالمنا على تبعيّة الريف للمدينة، وتبعيّة المدينة للعاصمة، وتبعيّة العاصمة لأميركا وفرنسا، هذا قدر اللّه، أن نعيش هُنا في الهامش على فُتات الثّروة والأحلام والاعتراف، فلّاحين في حقولنا، (هذا ليس متاحاً للجميع ولا إغراء فيه)، عُمّالاً في مصانع الإيطاليّين، أو خدماً ونُدْلاً لهم ولأمثالهم في الفنادق، نتسوّل بقشيشهم ونتحمّل إساءاتهم. كتب توفيق بن بريك في ذلك الزّمن كيف حوّلت السّياحة الصحراوية، أبناء الفرسان وناقلي السلاح للثورة الجزائرية إلى مُترجّلين يقودون جِمالهم بالسُّياح عبر البوادي والصحاري.
رأينا الوحشيّة المُفرطة التي كان يتمّ بِها تدمير العراق، وترويض الفلسطينيين، وكانت تلك الإجابة الأولى عن السّؤال الذي يتبادر إلى أطفال بِعمرنا، كيف تقف الدّولة -دولتنا- بلا حِراك أمام ما نراه: أن نتجنّب مصير العراقيّين والفلسطينيّين، أن لا نجلب الغضب علينا ونكتفي بقسمة الزّمن لنا في هذا العالم.
فهمنا قسراً أنّنا نستحقّ ما يتربّص بنا، فنحن أدنى من استيعاب العلوم والمعارف الحديثة، فالرياضيات والفيزياء والميكانيك ليست من نصيبنا، هي من نصيب الأوروبي الذي يصنع السّيارة والمدفع، وصاروخ الفضاء والآلات الحربيّة، ومن نصيب الصهيوني الذي ابتكر تقنيات الرّي الحديثة، ويصنع الإلكترونيات ويزرع التفاح والخضراوات ويُشجّر الصّحراء، وما علينا سوى أن نتعلّم منه ونلتحق به. كان جوهر «البورقيبيّة» المُترسّخة في أعماقنا كباراً وصغاراً وقتها، أن نرضى بالمرتبة الأدنى في التّراتبيّة الظّالمة للعالم، أن نقبل الهوان، كانت تبريراً قاصراً لكلّ الخيارات السياسية والاقتصاديّة الكبرى التي سارت فيها البِلاد، وتبريراً لأخلاق اللّؤم والسمسرة والنّذالة، ودرساً موارباً في تجنّب مواجهة الأسئلة الكبرى، والطواف العقيم حولها بلا جرأة على الحقيقة، وتعلّم التحذلق والفهلوة.
جاء اللّاقط الفضائي بعد ذلك معلناً عن عصر جديد من التواصل، وفاتحاً أفقاً أرحب للمعرفة. فغرنا أفواهنا أمام فيض اللذة المحرّمة. ولم نكن بأقلّ اندهاشاً وحبوراً أمام اكتشاف وُجود من قالوا لا للتراتبيّة الثابتة للعالم كما عرفناه. ومن بين كلّ من قالوا لا، كان الفلسطينيّ «عَلَماً على رأسه نار» داخل هذه الحلبة، كان الفلسطينيّ واحداً عندنا، رأيناه نقيض ما وَعيْنَاهُ ومثلما تمنّيناه، مقاتلاً يمتشق السّلاح، ويرمي الحجر على الدّبابة واستشهاديّاً يصنع بجسده جحيماً على أعدائه. تماهَينا بلا نهاية مع تلك الصّورة، لأنّها غازلت أمكنة خفيّة في أنفسنا ترفض الرُّخص والهوان، كان الفلسطيني المعاد اكتشافه هو رسول المستقبل الآخر الممكن، وكانت رسالته لنا هي «المُقاومة».
تعلّمنا من الفلسطيني أن لا مقام لنا إلّا في عالم نُعيد ترتيبه، تكون فيه دولة الكيان شبحاً من الماضي، أو لنَمُتْ ونحن نُحاول


حمل 26 تشرين الأول/ أكتوبر عام 2001 اكتشافاً استثنائياً يزعزع نهائياً بلا رحمة كلّ ذلك الترتيب المقيت للكون، وينسفه في أدمغتنا، كان صاروخ القسّام 1. لم يكن عمل نضال فرحات وتيتو مسعود يخترق قوى الجاذبيّة وقوانين قسمة المعرفة والعلم في العالم فقط (فكلاهما لم يدرسا في الجامعة ولا في أوروبا) ولم يحمل الصاروخ الصغير قصير المدى في الفضاء رأساً متفجّراً فقط، بل حملنا معه إلى آفاق أرحب، كانت أجنحته هي أجنحتنا التي نناور بها، ومحرّكه هو محرّكنا لنخترق به الجاذبيّة الأرضيّة، كان وعدنا بأن نَقلب تراتُبيّة العالم أو نلغيها نهائيّاً. لم يخفَ علينا أنّ من كان سلاحه أمضى وقدرته على الإيذاء أكبر، كان موقعه في العالم أكثر أمناً وثباتاً. وفي الوقت الذي تطال فيه يد الصّهاينة كلّ من تريد في أيّ مكان، كانت أيدينا قاصرة عن ردّ اللطمة. كان يمكن لجيشهم أن يقود حرباً، في حين يواصلون مهرجاناتهم وعربدتهم وغرورهم في غير مكان.
تقوم التراتبية الحاليّة للعالم على إبادة العربي في فلسطين، واستعباد العربي في ما حولها باللاثقافة، بالسياسات النيوليبراليّة، وبتقطيع الجغرافيا، والتّهديد المتواصل بالإبادة، وتربيته على اللؤم والخوف والمذلّة. كانت إرادة العربي في فلسطين هي الأصلب. عقّم الصاروخ مفعول الجدار العازل، ونسبياً مفعول سلاح الطّيران، وجعل مجتمع الاستيطان يعيش في الملاجئ أيضاً، وهو ينتظر تساقط الصّواريخ عليه، في أيار 2021 كانت الصّورة الأبلغ هي هروب المصطافين من شواطئ تل أبيب، تبّاً لكم هذه شواطئنا، حقّق دوي صفارات الإنذار شيئاً من العدالة المؤجّلة في العالم، لا يحقّ لكم أن تقتلونا وتذهبون للاستجمام. وكم وددت أن أقول هنا، حقّقت صورة الصاروخ شيئاً من العدالة المؤجّلة في ذهني.
يمكن لهذا العربيّ الذي لا يعرف الموضة، ولا يتحدّث لغات أجنبيّة أن يصنع، أن يأخذ نصيبه من شعلة بروميثيوس ويشعلها لنفسه، ويضيء بها ليل أهله، ليس مقدّراً له أن يعيش تحت رحمة الحاجة والخوف. أن يقتل فكرة الهوان، أن يضرب البنية الفوقيّة لفكرة التّبعية في مقتل.
لقد كذبوا علينا كثيراً، وفي ظُلمة حفلة الكذب والهوان أضاء الصّاروخ العربي على إمكانات أخرى لاختراع وجودنا في العالم. تعلّمنا من الفلسطيني أن لا مقام لنا إلا في عالم نُعيد ترتيبه، تكون فيه دولة الكيان شبحاً من الماضي، أو لنَمُتْ ونحن نُحاول.