كنّا على شاطئ مدينة أزمير التركية، عندما التقيت بشاب قادم من بيت حانون لأول مرة، بدأت علاقتنا بعبارة خشنة قالها بحزم «يا زلمة فك عني، أنا أصلاً هارب من الموت» بعد ساعات من المشي، والخوف من «الجاندرما»، ومن كل شيء آخر مجهول.«كيف نمشي مثل الأغنام في طريق ماخدنا حتماً ع الموت؟» سألني صارخاً وهو ينظر نحو الجموع الماشية، الموت رخيص في هذه الرحلة، سواء في البر أو في البحر، وأضاف: «مستعد للموت، أعرفه ويعرفني، لقد مات نصف أهلي، وأنا نجوت من القصف والحصار».
لكنه ظل يسأل «هنا، والآن، وعلى هالحدود، أموت كرمال إيش؟ عشان أصير لاجئ من جديد، كمان مرة! هاد هو الهدف؟» كانت أسئلته تحفر في صدورنا، اضطرابه، ولّد الأسئلة الكبرى التي كانت تدور في بال كل واحد منا، فبعد خسارتنا لكل شيء، ندفع ثمن موتنا وهروبنا الفردي للسماسرة وتجار البشر بالدولار الأميركي!
(عبد الرحمن قطناني)

يكمل صاحبي «البيت حانوني» بصراخه نحوي هذه المرة وحدي «طيب، وإذا نجيت، إذا عبرت هالصراط غير المستقيم، لوين بدي أوصل، ألمانيا... هولندا... السويد... رح أقدم طلب لجوء، واعتراف من جديد، وأصير هالمرة لاجئ بأوروبا ببطاقة ممغنطة.. يا سلااام».
«بس على الأقل يا خالتي هناك في كهرباء ومي ودوا، في سقف بيت...» تدخلت الحاجة نظمية، القادمة من مخيم شاتيلا الواقع على هامش الحياة في مدينة بيروت، ولمن لا يعرف شاتيلا، هو جرح مفتوح ينام في خاصرة المدينة.
بينما يتجادل الناس في كلام صديقي الجديد، أتذكر أقوال بعض أصدقائي من المخيم، ممن وصلوا إلى أوروبا، بعضهم قالوا إن تلك البلاد تشبه موتاً بطيئاً، كأنها تأكل أطراف البشر وأحلامهم وتكسر نفوسهم، الآن لا أتذكر واحداً من الأصدقاء لم يتكلم عن إحباطه، أو اكتئابه، أو حتى على النقص في فيتامين «دال» الذي يتوافر بكثرة لدينا مع شمس كل نهار، فمدن كبروكسيل وأمستردام وبرلين، رمادية لا تعرف الشمس، عتيقة، تخنقها القوانين العنصرية، وهي مثل أهلها «باردين خيا بحبوش اللاجئين والمهاجرين»، آه كم سمعت تلك العبارة.
تذكرت تلك المحادثات بينما الأصوات من حولي تتعالى وتخفت، وأنا في عالم آخر، أحاول أن أفسر، لماذا تلك الآراء، أليسوا مبالغين، فكرت قليلاً بها، ربما يفكر الأوروبيون بنا على هذه الشاكلة، لأننا لا نشبههم، أو ربما لأننا نذكرهم بمجازر كثيرة ارتكبوها بحق شعوب عدة في العالم، خلال استعبادهم واستعمارهم لدول وشعوب أخرى، شيدوا من خلاها «حضارتهم» المطرزة بدمائنا، فبنوا أبراجاً من عظامنا، وافتتحوا متاحف عرضوا فيها جماجمنا، أو ربما هروبنا من الحروب والتعاسة في بلادنا أو بلدان لجوئنا تذكرهم بحقوق الإنسان التي يدافعون عنها في بلدانهم ويمنعونها عنا في بلداننا، ربما لكل تلك الأسباب وغيرها.
تلك الأسئلة والإجابات، لم تكن في رأسي وحدي، كانت لدى الجميع، لكننا لم نفكر بها قبل أن نسير في هذه الطريق، وفهمنا عندما وصلنا، وصرنا نطوف في المدن، حفاة عراة، فنحن في بطن الغول.
أصحو من غيبوبتي على صوت الحاجة نظمية، التي تقول باستهزاء مشبع بالملل، وبالحسرة التي تكاد تنفجر من عيونها ووجهها المكبوت، «إذا الله نجانا، ووصلنا لهناك، رح نوخد ضمان اجتماعي، وطبابة، وتعليم، وعمل، وحرية تنقل، لا في حواجز ولا تصاريح من مخابرات الجيش، وما حنكون محتاجين لمساعدات الوكالة، ومكرمات القيادة، ومخصصات الفصائل وشركات المجتمع المدني».
■ ■ ■

ما بين برين، التركي واليوناني، مسافة بحر وساعتين، في القارب الذي قطع المسافة بسرعة طلقة، كان مشهد جزيرة «ليزفوس» ساحراً، بعد رحلة خاطفة ومريبة، كان المشهد يطل أخيراً على أوروبا، لقد وصلنا.
لم تدم الفرحة مع الانتظار الذي طال، مرت أشهر طويلة محشوة أيامها بالمعاناة والجوع، وكل أشكال الذل والمهانة، عشنا في الخيام في مكان أسموه مخيم «موريا»، ووقفنا في طوابير الطعام والمعونات، والانتظار المميت على أبواب العيادات البدائية، ومع كل ساعة جديدة، كان شبح الاعتقال يحاصرنا، نريد الهروب من جزيرة الموت، تلك التي كانت ساحرة.
وفي ذاك الانتظار الطويل، لم أعد أعرف أين صديقي الغزاوي، وماذا حلّ به. هممت بالهروب من تلك الجزيرة مع أبو كرم الكردي، وفي الطريق كنت أبحث ما استطعت عن صديقي، لم أجده، شعرت بمرارة الفقدان والخسارة، بينما أعبر مع آخرين في الطريق التي دلنا عليها تجار البشر في مخيم الجزيرة بعد أن قبضوا ما تيسر من المال.
وصلنا إلى قرية بعيدة وبسيطة، تعامل أهلها الطيبون معنا بلطف، لا تشبه تلك القرية ما قاله أصدقائي عن المدن الأوروبية، فبدت خضراء يمر فيها نهر يفصل بين بلاد الإغريق والعجم انتهى، وعادت تلك القرية كسواها رمادية، فقد أخبرنا أحد أهالي القرية عن لاجئين ماتوا على الطريق وجلبوهم إلى ثلاجة الموتى في هذه القرية، نظرنا في تلك الوجوه الميتة، كان أصحابها يبحثون عن أمل، عن حياة ربما تكون أفضل، لم يكونوا يبحثون عن موت في طرق ليس فيها أحد، وفي أماكن ليس لهم فيها أحد. كان صديقي الغزاوي بينهم، عرفته من سواد عينيه وإسوارة كانت تلف معصمه منذ رأيناه آخر مرة في مخيم «موريا» على جزيرة «ليزفوس» اليونانية، ورقم ٢٠١٦-٤٨-٦٧، بدل اسم أو هوية.
كيف أتذكر تلك اللحظات، كيف أتذكر أسئلته، أنا الآن بلا إجابات، أتذكر غضبه واضطرابه في الطريق، وأنظر إليه الآن في الثلاجة هادئاً وحزيناً، بحجم خوفه الذي كان قبل أيام من هذا الموت المجاني، لقد كان يعي ما يقوله حين صرخ مرة «إنه يعرف الموت تماماً».
لقد مات صاحبي القادم من بيت حانون في فلسطين، أخبرونا أهالي القرية الأوروبية أنهم انتشلوه من النهر، لقد غرق فيه مع آخرين، عرفت بعضهم، سوريين وأفغاناً وأفارقة، لم يمت صاحبي وحده، مات معهم، هو كان في طريقه إلى من تبقى من عائلته في قرية كئيبة في بلجيكا، والبقية كل واحد منهم كان ربما يريد أن يصل إلى حياة جديدة أو أهل أو أصدقاء.
لم يكن موتهم، الفاجعة الأولى، لقد سمعنا في نشرات الأخبار، قبل أن نأخذ طريق الهجرة، عن مهاجرين قضوا في رحلتهم ولم يصلوا، وسمعنا هذه المرة من أهالي القرية، كيف يعيشون في «كارثة» متجددة منذ عشر سنوات، مع هذا الموت المتكرر، الذي يأتيهم من بلاد الحرب، فعلى ضفاف «النهر القاتل» كانت ذكرياتهم، وهم يخشون عليها من ذكريات جديدة، ليس فيها سوى الموت، قريتهم لم تعد سعيدة ولا مستقرة، هكذا قالوا لنا.
اعتذرنا، ولم نعتذر، عدنا ولم نعد
أنا أصلاً لا أعرف قريتي في فلسطين، ولا أملك بيتاً من قصب وحجر، والآن خسرت خيمتي ومخيمي وصديقي الغزاوي، وها أنا بلا عنوان. لكني أعرف شيئاً واحداً: ليس في وسعي أن أحيا بلا شمس، الرطوبة تعني قتلي، وإن كان لا بد من موت، فسأختار موتاً بينما أبحث عن الشمس، وعن بيتي وقريتي التي هناك، في أحلامي، على ضفاف البحيرة، وعلى حدود الجنوب.