بعد صدور قرار تقسيم فلسطين بثلاثين عاماً، منحت الأمم المتحدة الشعب الفلسطيني، يوماً للتضامن معه، يوماً واحداً، لتبقى أيام السنة الأخرى بلا تضامن. صوّت على القرار في المكان ومن الجهة ذاتها التي صوّتت لصالح قرار تقسيم الوطن فلسطين عام 1947. إنها مفارقة تستحق التوقف عندها والتأمل.كيف استطاعت فعل ذلك التناقض البيّن والواضح الجلي، ليست الأمم المتحدة من فعلت ذلك، إنها القوى الغالبة والمنتصرة، أملت وفرضت قرار التقسيم من دون النظر في تداعياته المأساوية على الشعب الفلسطيني، والتي لا تزال ماثلة منذ عقود وحتى هذا اليوم. القوى العالمية حكمتها وتحكمها المصالح، تجندت لخدمة مشروع استيطاني إحلالي عنصري، يمارس اليوم على أرض فلسطين كل أنواع الجرائم من دون خوف من المحاسبة، فهو محروس ومحميّ من القوى نفسها التي أمّنت له شرعية دولية.
(برهان كركوتلي)

والمفارقة الأخرى، أن قرار التقسيم حمل طابعاً حقوقياً قانونياً، أشرفت على تطبيقه الجهة التي تدّعي رسم معالم الحق الإنساني، فيما يوم التضامن، ومن اسمه يحمل طابعاً عاطفياً تذكيرياً، بأن الشعب الفلسطيني قد انتزع منه الجزء الآخر من وطنه، ومن يومها يعيش منتظراً يومه الموعود، وما بين التقسيم والتضامن فارق نوعي، خطان لا يمكنهما أن يلتقيا، فالأول أصبح واجباً، والثاني اختيارياً في التضامن أو عدمه، الأوّل ساهم في تأسيس دولة الكيان، والثاني محاولة للتذكير بأن هناك ضميراً إنسانياً حاضراً في هذه القضية، لا يؤسس إلى فعل شيء ملموس في حياة الفلسطينيين.

بين التقسيم وحقّ العودة والتضامن
على الرغم من إجحاف قرار التقسيم الرقم 181 الصادر عام 1947، لحق الفلسطينيين في أرضهم، ومنح اليهود الشرعية لإقامة دولة لهم، لم يمنح الشرعية ذاتها للفلسطينيين. وبالتالي كان القرار تمهيداً للنكبة، وتمهيداً لقرار آخر، سيبدو مع الوقت أنه قرار لرشوة ضمير العالم، فنَصّه الذي يؤكد على عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أراضيهم التي هُجروا منها، لم يُنفذ، وظل حبيس الأدراج إلا في المناسبات، وصرخات المطالبة بعودة الفلسطينيين الذين هُجروا وأولادهم وأحفادهم اليوم، ولم يُتخذ حتى الآن أي إجراء يلزم إسرائيل بتنفيذ القرار. مع ذلك فهو قرار دولي موثق، يتم الاستناد إليه لحفظ الحق، بجزء مهم من القضية الفلسطينية، وهو حق العودة، المعادل الموضوعي للنكبة، فهو أمر حاضر وواقع وفاعل وليس تاريخاً وذكريات، حاضر بوجود أصحابه، وبوجود إرادتهم وكفاحهم المشروع والمستمر منذ عقود، بينما «اليوم الدولي للتضامن مع الشعب الفلسطيني»، صحيح أنه رشوة ضمير أخرى، إلا أنه مكمل ومساعد وداعم لنضال الشعب الفلسطيني.

يوم التضامن ليس احتفالاً
في يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، تأكيد على أن هناك حراكاً يحمل طابعاً أممياً، سواء كان رسمياً تمثّله دول، أو شعبياً تمثّله مؤسسات وأفراد مناصرون للحق الفلسطيني، قد تختلف الدوافع في مسألة التضامن، وقد تتفاوت تبعاً للجهة المتضامنة، لكن منبتَه واحد، مرتبط ارتباطاً عضوياً بحرارة القضية الفلسطينية، وما تمثّله من امتحان عملي للإنسانية جمعاء، وهو ليس احتفالاً فولكلورياً عائماً، وليس بديلاً من الحضور الدولي، كعامل إيجابي تجاه القضية الفلسطينية وتداعياتها على المسرح الدولي.
الاكتفاء بيوم التضامن لا يكفي لإعطاء القضية الفلسطينية حقها، في مسار النظم والمؤسسات الدولية، والمحافل الشعبية في كل مكان، صحيح أن يوم التضامن تخطّى بعده اللحظي والآني في 29/11 من كل عام، فالكثير من القوى والتجمعات الأكاديمية والنقابية والمهنية في أكثر من مكان في هذا العالم، استندت إلى هذا اليوم، ليكون لحظة تذكير ودافع، واستحقّت بعضها في أكثر من دولة وسام النجاح، بعد أن حوّلته إلى فعل دائم، عبر حركة المقاطعة الدولية لدولة الاحتلال، إذ شملت أكثر من باب ومجال. على الصعيد الأكاديمي، يعاني الاحتلال من حصار ينمو ويزداد بفعل المقاطعة التي تفرضها الكثير من المؤسسات البحثية والجامعية. وعلى الصعيد النقابي، فقد نجحت أيضاً العديد من المؤسسات النقابية بفرض حصار اقتصادي على المنتجات الصناعية والزراعية القادمة من مستوطنات الاحتلال. كما شملت أيضاً المقاطعة، المهرجانات والمعارض، التي تقام سواء داخل دولة الاحتلال أو في الخارج بمشاركتها أو تنظيمها. والمؤسف جداً، أن تكون حركة المقاطعة تنمو وتتجدد في الدول الغربية، بينما عالمنا العربي والإسلامي، يشهد حركة انفتاح على دولة الاحتلال، وفي كل مرة تتحفنا الخطابات الرسمية، أن سبب هذا الانفتاح هو من أجل دعم القضية وشعبها.
فيما تثبت الوقائع أن التحلل من المقاطعة التي جرت في العقدين الماضيين لدى بعض الدول أو الجهات الرسمية وغير الرسمية، لم يجلب سوى الضرر المباشر على القضية وأهلها، ولم يتراجع الاحتلال خطوة واحدة إلى الوراء، بل زاد ويزيد من سياساته العدائية تجاه الشعب الفلسطيني، عبر زيادة الاستيطان، وتهويد القدس، والحصار المضروب على الشعب الفلسطيني الذي ازدادت وتيرته بعد اتفاقيات التطبيع.

الإرادة الشعبية أقوى في تعبيراتها
في المقابل، هناك مؤشرات شعبية، عربية على وجه التحديد، تقود إلى استنتاج مفاده أن فلسطين لا تزال القضية الأولى للعرب ولكل أحرار العالم، فما شهدناه من رفض شعبي للوجود الصهيوني على أرض قطر هذه الأيام خلال مجريات المونديال، يدلّ على أن الاحتلال مرفوض بشكل مطلق، فكل محاولات الإعلام الصهيوني لإجراء مقابلة واحدة في قطر، باءت بالفشل الذريع، ودلّت على أنهم غير مقبولين في العالم العربي، فعادوا أدراجهم مكلّلين بالهزيمة النكراء، بعد أن أثبت العرب هناك أن فلسطين أكبر من الرياضة وأكبر من غيرها. لقد ظهرت ردات الفعل أن فلسطين عقيدة كالصلاة، ولم يكتف الأمر عند حدود العرب والمسلمين، فقد شاهدنا اليابانيين والبرازيليين وكثيراً من الجنسيات يرفضون إجراء مقابلات إعلامية مع الإعلاميين الصهاينة، والموقف كان واحداً موحداً، ففلسطين هي الحاضرة في المونديال، والاحتلال هو الغائب بفعل الإرادة الشعبية.

التضامن لغة الإنسان
من الواضح أن منسوب التضامن مع الشعب الفلسطيني، محكوم بالظروف الموضوعية التي تفرض نفسها على المتضامنين، لكنّ هذه الظروف تبقى أسيرة الفعالية الفلسطينية، واستمرار الكفاح الفلسطيني وديمومته، فكلما ازدادت وتيرة كفاح ونضال الشعب الفلسطيني وتصاعدت، ازداد فعل التضامن، وتماسكت خطواته، بما يخدم القضية وشعبها، وكلما خفتت وتيرة الكفاح، تراجعت حركة التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني، في معادلة أظهرتها الوقائع طوال عقود، ففي عام 1977 الذي أُقر فيه يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني، كانت الثورة الفلسطينية حاضرة وهادرة، ولديها القدرة على إيصال الصوت الفلسطيني إلى كل بيت، في حين تراجع التضامن بعد تسويات أوسلو وتوابعها، حتى ظن البعض أن القضية الفلسطينية قد زالت من أجندات المجتمع الدولي وانتهت إلى غير رجعة، لتعود مرة أخرى على وقع الزخم الكبير الذي أحدثته الانتفاضة الثانية، التي أعطت الشرعية لكل حركات المقاطعة في العالم دون استثناء. عندما يحضر الفلسطيني ويعلي صوت الكفاح، يُسمع في كل مكان، وربما غداً يتحول التضامن إلى موج هادر، يستطيع أن يفرض نفسه وأجندته، وأهدافه العليا، وهي فرض المقاطعة على كامل مؤسسات دولة الاحتلال، وربما هذا اليوم ليس ببعيد، فالشعب الفلسطيني هو الشعب الوحيد في العالم الذي لا يزال تحت الاحتلال، بكل ما يحمله من عداء للقيم الإنسانية. وبالتالي، فإن فلسطين هي امتحان الكل، لانتصار قيم الحرية والعدالة والحق بالحياة، وهذا الامتحان قائم منذ النكبة وحتى هذا اليوم، فمن يتضامن مع فلسطين اليوم، يتضامن مع قيمه وأنماط عيشه، ومن يعاديها، يعادي كل القيم والمبادئ الإنسانية، والمعركة مفتوحة على مصراعيها، وكل حسب وجهته.