لم يكن الانفجار الطائفي في مصر، قبل يومين، انقلاباً على ما سمّي «ثورة 25 يناير»، لا بل هو نتيجة مباشرة لمنطقها وأحداثها. فعلى مدى عقود طويلة، كان نظام كامل وشامل يقمع الطرفين: يقمع الإسلاميين أولاً، بما هم إيديولوجيا سياسية منبثقة من فكر ديني. ثم يقمع الأقباط ثانياً، بما هم جماعة دينية مغايرة للدين الذي ينبثق منه الإسلاميون. على مدى أكثر من نصف قرن، كان النظام يحارب الإسلاميين ليحفظ سلطته، ثم يضرب الأقباط ليربح شرعية المسلمين. شيء من نظرية الأقلية ـــــ وفي حالة مصر هي الأقلية «الزمرة» العسكرية، التي تتحول مع الأعوام والمصالح أوليغارشية عسكرية اقتصادية بورجوازية مركبة ـــــ التي تصل الى الحكم بخطاب الأكثرية، فتنتهي الى سحق الأكثرية وكل الأقليات معاً، لمجرد البقاء في السلطة. لحظة سقوط حسني مبارك، بما هي لحظة تغيير حاكم، لا تغيير نظام ولا انقلاب على نهج ولا ثورة على فكر، وجد الطرفان المقموعان نفسيهما أمام لحظة الحسابات المتناقضة. كل منهما اعتبر أو توهم أنها لحظة الانتقام والثأر من حاكم العقود الستة الماضية، المتبدل الأسماء والثابت الأداء.
الأقباط من جهتهم، كانت حساباتهم بسيطة: حريات فردية وعامة كاملة. تماماً كما حاولوا في «قرية الماريناب (حيث) توجد كنيسة مار جرجس التي يصلي فيها أقباط القرية منذ عام 1940 وقد تهدمت حوائطها أخيراً بفعل القدم، فأصدر المسؤولون عنها تراخيص قانونية من أجل تجديدها»، وفق شهادة الصادق الملتزم علاء الأسواني. وضعت شروط ذمية على خادم الكنيسة، فقبل بها. لكنها لم تبعد عنه وعنها نار «الربيع العربي» قبل أسبوع.
أما الإسلاميون بكل تلاوينهم: إخوان مسلمون، سلفيون، أزهريون...كلهم اعتقدوا أنه آن أوان النظام الإسلامي. وأنها اللحظة السانحة التي يصححون فيها «خطأ» التاريخ. في وثيقة الأزهر في حزيران الماضي، كان واضحاً أن المطلوب دولة «تكون سلطة التشريع فيها لنواب الشعب بما يتوافق مع المفهوم الإسلامي الصحيح». وأن «تكون المبادئ الكلية للشريعة الإسلامية هي المصدر الرئيسي للتشريع، وبما يضمن لأتباع الديانات السماوية الأخرى الاحتكام إلى شرائعهم الدينية في قضايا الأحوال الشخصية». إذا الحكم إسلامي. أما حرية الجماعات الأخرى فمحصورة ومقتصرة على «أحوالها الشخصية»، بما يتوافق مع النظام الإسلامي العام. الكلام حول «الالتزام بمنظومة الحريات الأساسية في الفكر والرأي»، فلم يأت على ذكر أي مرجعية دولية لحقوق الإنسان: لا إعلان عالمياً ولا عهد دولياً ولا أي ميثاق أممي من مرجعيات القانون الدولي في هذا المجال.
التيار السلفي بدوره كان قد سبق الأزهر الى إعلانه حقه بقطف ثمار «الثورة». ففي 17 أيار، كان قد فتح جبهة تعديل نصوص قانون الأحوال الشخصية لـ«يتوافق مع الشريعة الإسلامية». وكان لافتاً تجاوب «مجمع البحوث الإسلامية» الفوري مع مطلب السلفيين، بتشكيله لجنة فقهية لإعادة النظر في القوانين الحالية. وقد تظاهر الآلاف من السلفيين أمام مقر مشيخة الأزهر في القاهرة، رافعين لافتات «اللهم إننا نشهدك أننا ذهبنا إلى ولاة أمرنا لنصل أرحامنا على أهلنا». بعدها بأسبوعين، أعلن السلفيون تأسيس «حزب النور». ولاحظ أحد الباحثين أنه بين ما يزيد على عشرة آلاف ومئتي كلمة هي برنامجه السياسي، لم ترد كلمة غير المسلمين أو المواطنة مرة واحدة، بينما وردت كلمة المدنية أثناء الحديث عن الصناعات العسكرية والمدنية! ولم يأت على ذكر حقوق الإنسان إلا أثناء الحديث عن الحق في الرعاية الصحية، بينما أتت الديموقراطية في موضعين مشروطة دائماً بالمرجعية الإسلامية. ويؤكد البرنامج السلفي أنه «ينبغي أن تكون جميع مكونات العملية السياسية منضبطة بضوابط الشريعة الإسلامية، فتحقيق الديموقراطية إنما يكون في إطار الشريعة الإسلامية».
الإخوان المسلمون، من جهتهم، توزعوا الأدوار بين حزب بنيابة رئاسة لقبطي، وبين منشقين وغير سياسيين، لكن أحداً من كل تشكيلاتهم المرتبة على نحو مدروس ومسبق لم يعلن تراجعه عن شعار «الإسلام هو الحل» الذي رفعوه في الانتخابات التي خاضوها عام 2005.
هكذا لحظة سقوط مبارك، بدت الحسابات متناقضة بين طرفين، يرى كل منهما أن له فضلاً في الانتقال الى المرحلة الجديدة، وأن له ثأراً على النظام السابق، وأن أمامه فرصة مشروعة لتحقيق أهدافه. لكن الأهداف في ما بينهما غير قابلة للتعايش: من جهة نظام إسلامي يسمح بقطع أذن القبطي كما حصل أمام أعين المسؤولين، ومن جهة ثانية نظام دولة مدنية منفتحة على أوهام ربيع، أين منه «ربيع براغ».
بين الحسابين، انفجرت في القاهرة التي تبدو كأنها تُنحر أو تنحر «ثورتها». فمن يخبر بيروت عن السبب، ومن يبلغ المؤتمرين في أدما بعد أيام، ومن يعتذر من بطريرك لم يستقبله حليف حسني مبارك في واشنطن؟؟