مقولة الفرنسيين حول ضرورة إعطاء الوقت للوقت، تبدو لازمة في المسائل الإشكالية السجالية الحساسة مثل قضية مثول شربل خليل أمام القضاء، بتهمة التعبير عن رأي. بعد مضي أيام على إثارة الموضوع، وبعدما يكاد ينتهي إلى ما انتهى إليه، لا بد من إعادة البحث في الأساس والمضمون والدلالات والعبر.
أولاً ليس القاضي في المطلق والمبدأ، مجرد تقني قانون. فهو أولاً مؤتمن على العدالة. ليست وظيفته إلزام نص. بل إحقاق حق. هي مسألة ملتبسة في مجتمعنا وبلدنا ومنطقتنا بالطبع. حتى أننا نترجم المفاهيم خطأ. فنتحدث عن دولة القانون. فيما المفهوم الحقوقي العالمي هو دولة الحق. والحق في نطاق الحريات الخاصة والعامة، ليس مقتصراً على نصوص وقوانين وأنظمة. الحق في مسائل الحريات، سقفه مبدأ الحق الأصيل نفسه. مرجعيته قانون المسلمات Jus Cogens، كما ذهب إليه العصر. حيث أبسط تفسير له هو السؤال: ثمة معاهدات دولية تنص اليوم على منع التعذيب. لكن قبل إبرام تلك المعاهدات، هل كان تعذيب الإنسان، موقوفاً أو ناشطاً أو معارضاً، واجباً على كل سلطة؟ أم تراه كان مقبولاً أخلاقياً وإنسانياً؟ قطعاً لا. لكن ما الذي كان يحرم التعذيب قبل المعاهدات والقوانين والشرائع؟ إنه مفهوم الحقوق المسلمات والحقوق الأصيلة. التي منها الحق في السلامة الجسدية للشخص الإنساني. هو حق سابق لكل قانون، وشارط لكل تشريع. وهو فوق كل الأنظمة والقوانين والدساتير.
الحق في التعبير، هو حرية من تلك الأصيلة. هو حق مسلم به. لا يحتاج ترخيصاً، ولا قراراً وضعياً. ولا مرسوماً. فهو منبثق من الحق في التفكير. الذي هو بدوره صنو الحق في حرية الضمير. مفاهيم لا تعرفها منطقتنا. وكل مآسينا في جهلها لها. لكن ماذا عن دور القاضي في هذا المجال؟
أما من ضوابط لهذه الحريات الأصيلة؟ بالطبع. لها ضابط واحد. هو ما خلص إليه الفكر الإنساني في حدود المادة 29 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان. لا يحد حرياتنا الأصيلة الأساسية، إلا أمران: حقوق الغير وحرياته. والمقتضيات العادلة للنظام العام والأخلاق، لكن في نظام ديمقراطي. كل ما خلا ذلك، لا يمكن ولا يصح ولا يحق له أن يقيد حرية اساسية أو حقاً أصيلاً، مثل الحق في التعبير وحريته. وهنا دور القاضي حامي الحقوق والحريات، لا معقب النصوص ومطبق التدبيجات.
هذا في المطلق والمبدأ. أما في الواقع اللبناني، فثمة بعد آخر للمسألة. عندنا يخشى ان يتحول القضاء من حيث لا يريد ربما، أو لا يدري، أداة تهويل على أصحاب الرأي، ووسيلة ترهيب لحرية التعبير. وأسوأ ما في هذا النمط أنه موروث من زمن الوصاية. ولنتحدث بصراحة، وبالإذن من كل المعنيين. قد نختلف مع شربل خليل حول بعض أسلوبه، أو بعض المباشرة والمبالغة والمزايدة في تعبيراته عن رأيه. لكن للتدليل على هذا الموروث السيئ، لا بد من التذكير بأن الرجل أول ما لوحق، قبل عشرين عاماً بالتمام. ويومها أرهب من خارج الوصاية القضائية، لأنه وضع عنواناً لمسرحية كتبها: «حافظ ع راسك». يومها كانت دولة كاملة، برؤسائها ووزرائها ونوابها وكل موظفيها وإدارتها، ترتعب من لفظ كلمة «حافظ». فاعتبر الرجل عدواً للسلم الأهلي.
ليس عدلاً، ولا مشرفاً بعد عشرين عاماً، أن يلاحق الرجل نفسه بالتهمة نفسها. كأن دولة اليوم تؤكد أن حالها في زمن الوصاية تماماً كحالها في زمن السيادة. كأن المدعي والنظام والدولة يبرهنون أن وضعهم في أيام الاحتلال مطابق لوضعهم في أوهام الاستقلال. كأن الحق في حرية التعبير ثابت لم يتغير. والحرص على القمع ثابت لم يتبدل. عيب أن يحاكم المرء مرتين في زمنين متناقضين بتهمة الحرية ذاتها. وعيب أكبر أن يكون من حاكمنا وحكمنا في زمن السوري هو نفسه من يحاكم ويحكم في الزمن الدستوري. لن ننتظر من بعض مومياءات النظام الاستقالة من تذكيرنا بأنهم موتى يستوجب دفنهم. لكن ننتظر من القاضي، صاحب سلطة الاستنساب دفاعاً عن الحق، أن يقدر، فيقرر مثلاً حفظ الدعوى. من دون استدعاء، ومن دون وقوف وجلوس وسين وجيم. فتكون الرسالة من جسم العدالة إلى مستغليه والمتعسفين في استخدامه، بأن القاضي هو حصن دفاع، لا متراس هجوم على الحقوق والحريات.
تبقى، بعد المبدأ والواقع، مسألة تتعلق بالمستقبل. بمستقبل الإنسان عندنا ومستقبل الوطن. كلنا ندرك أننا نعيش في مأزق متعدد الوجوه. وكلنا نحس بوطأة انسداد الأفق السياسي والاقتصادي والأمني والعسكري والجيوبوليتيكي. وكلنا نبحث عن ثغرة، عن كوة، عن تفسخ في جدار هذا السجن الكبير. في دول كثيرة، عانت مآزق كمأزقنا، تمكن القضاة من تقديم بعض أمل. قضاة لبنان أعطوا أكثر من فرصة لتحقيق خرق كهذا. قبل مدة قدم جون القزي مناسبة لضرب نظام العشائر الشخصي صوب دولة مدنية، فأحبط. وقبل أسابيع أعطاهم شربل نحاس فرصة ليقودوا عملية «أياد بيضاء» لإعادة بناء الدولة الشفافة الرافضة لدولة الفساد والسرقة، فنامت الفرصة حتى اللحظة في الشورى. اليوم، وكل يوم، يُعطى قضاتنا فرصة أن يقولوا لا لنمط القمع البنيوي والعنف المستتر. فرصة تستحق أن تنتهز. فتحفظ ملاحقات اضطهاد أصحاب الرأي، من دون كرنفالات. يستحق قضاتنا إنجازاً كهذا. ويستحق مناضلو حرية التعبير، ويستحق الحق.