مدفوعةً بالتحدّيات الإقليمية والدولية التي باتت تُهدّد مستقبل وجودها في اليمن، قفزت السعودية، في استعجالها تأليف حكومة جديدة موالية لها، فوق مندرجات "اتفاق الرياض" الذي رعته بنفسها بين طرفَي النزاع، والذي فشلت في تطبيقه منذ أكثر من عام؛ إذ كان من المفترض، وفق الاتفاق المذكور، إخراج السلاح المتوسّط والثقيل من المدن، ولا سيّما عدن، قبيل تأليف الحكومة، إلا أن ما حدث عملياً هو أن الطرفين احتفظا بكامل أسلحتهما، كلّ في مناطق نفوذه، تمهيداً لجولة أخرى من النزاع. وعليه، نفّذت المملكة إرادتها السياسية وفق متطلّبات المرحلة الراهنة، على حساب مصالح القوى المحلّية المنضوية تحت لوائها.ما حصل هو وقف صوري للحرب في محافظة أبين، من دون نزع بواعث الصراع، وهو ما لم تسعَ إليه السعودية أصلاً، حتى تُبقي لنفسها القدرة على التحكّم في خيوط اللعبة. هكذا، عمدت إلى تنفيذ إجراء عسكري أقرب ما يكون إلى إعادة انتشار للقوات منه إلى انسحاب من المدن، الأمر الذي كانت ما تُسمّى "الشرعية" تُصرّ على رفضه طوال سنة كاملة. في مقابل ذلك، أخضعت "المجلس الانتقالي الجنوبي"، بإجباره على تحجيم مطالبه، لينال أقلّ من نصف حصة الجنوب البالغة 12 وزيراً، بتمثيله بخمسة وزراء، بعد أن كان متمسّكاً بكونه "الممثّل الشرعي الوحيد" للمحافظات الجنوبية.
ويرى مراقبون أن التشكيلة الحكومية الجديدة تحمل في ذاتها بذور الشقاق، بسبب تعدّد الأطراف المشاركين فيها، وتناقض أهدافها وتوجّهاتها السياسية والأيديولوجية، وعمق خلافاتها، وولاء كلّ منها لطرف خارجي؛ إذ كيف يمكن، مثلاً، لكلّ من "الانتقالي" وحزب "الإصلاح" (إخوان مسلمون) أن يجلسا إلى طاولة واحدة ويعملا معاً، فيما كلّ منهما يتطلّع إلى القضاء على الآخر؟ وهو ما لا يُتوقّع أن ينتهي بتأليف حكومة جديدة لتجذّر الخلاف بينهما، وتعدّيه الجوانب السياسية إلى الأبعاد الوجودية، وارتباطه بأجندات خارجية، ولا سيما بدولة الإمارات وصراعها مع "الإخوان". على أن أكثر المتفائلين بتأليف الحكومة لا يطمحون إلى أكثر من تَمكّنها من صرف مرتّبات الموظفين العسكريين والمدنيين، ووقف انهيار العملة.
تحمل التشكيلة الحكومية الجديدة في ذاتها بذور الشقاق


إذاً، ألزمت السعودية طرفَي الصراع بتجاوز خلافاتهما التي كانت حتى الأمس القريب مستعصية على الحل، والقفز فوق مطالبهما الحزبية والأيديولوجية والمناطقية، والتسليم بما يُملى عليهما، بعد أن أنهكتهما بنيران حرب محافظة أبين، واستنزفت قدراتهما من دون أن يستطيع أيٌّ منهما الحسم الذي كانت إدارة مصالح الراعيَين الإقليميَين مانعة منه، فضلاً عن المدد المالي والسياسي والعسكري لتغذية الحرب التي استمرّت قرابة ستة أشهر من دون أن يتقدم أيٌّ من الطرفين متراً واحداً. يدرك الأطراف المحلّيون أن "الإنجاز" الحكومي ما هو إلا التفاف على مطالبهم التي قاتلوا سنوات طويلة من أجل تحقيقها، ليَثبت مجدّداً أن أولئك الأطراف إنما يمثّلون أدوات لتمرير الأجندة الخليجية التي يتصدّرها مشروع التطبيع مع الكيان العبري، مع ما للجغرافيا اليمنية من أهمية في هذا المشروع لناحية "الأمن الاستراتيجي" للكيان. ولم تَعُد هذه الحقيقة مخفاة في إسرائيل، حيث بات يكثر الحديث عن إغراء "الأصدقاء الجدد" في جنوب اليمن بوعود زائفة في الانفصال، مقابل تأمين مصالح تل أبيب. وفي هذا الإطار، لا يمانع "الانتقالي"، في أدبيّاته السياسية والإعلامية، الانخراط في مشروع التطبيع مقابل الاعتراف به كـ"ممثّل شرعي وحيد" في الجنوب، على أن يبقى شعار الانفصال مرفوعاً لخداع العامّة، الأمر الذي جاهر به أكثر من مسؤول في "الانتقالي" بعد إشهار التطبيع بين الإمارات وإسرائيل. أمّا تبرير الموافقة على تسهيل تأليف الحكومة من دون تحقيق الحدّ الأدنى من المطالب، فيكون بتكرار المزاعم نفسها عن "الحفاظ على الأمن القومي العربي"، وفق قول رئيس "الانتقالي" عيدروس الزبيدي، ومواجهة "التمدّد الإيراني" في الإقليم.
وتواجه الحكومة الجديدة الكثير من الانتقادات لكون معظم وزرائها مفتقرين إلى الحيثية الشعبية، حتى داخل قواعد أحزابهم؛ إذ شكّل المعيارَ الأساسي في اختيارهم مدى قربهم من السفير السعودي في اليمن، محمد آل جابر، الذي بات يوصف بـ"بريمر اليمن". والجدير ذكره، هنا، أن سياسة التملّق والخضوع لا تقتصر على القيادات الدنيا أو الوسطى، بل تشمل أيضاً القيادات العليا. ولا ينحصر ذلك في حزب أو جهة بعينها، يل يطال الجميع على اختلاف توجّهاتهم، بدءاً من الرئيس المنتهية ولايته عبد ربه منصور هادي، وصولاً إلى قادة الأحزاب الكبيرة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا