بدهشة ندخل إلى حي «لا بوكا» الأرجنتيني. الحي الفقير الذي حطّ فيه المهاجرون الإيطاليون والإسبان رحالهم في بداية القرن الماضي، وحولوه الى «أعجوبة فنية». تنتشر في الحي الموسيقى الصاخبة وصور نجم الكرة الأرجنتيني مارادونا الذي تلقى تدريباته في أول ملعب كرة قدم أنشئ في الأرجنتين. هنا في «لا بوكا». لم تقف إنجازات الإيطاليين في «بلاد الفضة» عند هذا الحدّ، ففي 3 نيسان/ أبريل 1905، شهد هذا الحي تأسيس نادي «أتلتيكو بوكا جونيورز»، على يد خمسة من المهاجرين الإيطاليين، واستطاع الصعود إلى دوري الدرجة الأولى عام 1913. وها هو اليوم يملك شعبية جماهيرية كبيرة وإنجازات محلية وقارية ودولية، إضافة إلى لاعبين عالميين، ما جعله الفريق الأكثر نجاحاً في أميركا اللاتينية على مدى سنوات عديدة. من هنا البداية من فريق الشعب: بوكا جونيورز. حسب آخر الإحصاءات، يوجد نحو 25 مليون أرجنتيني لديهم أصول إيطالية. وهذه نسبة كبيرة، فهي تمثل 62.5% من الشعب هناك. ينعكس هذا بوضوح على كرة القدم. خرج نجوم يمتلكون كلا الجنسيتين، ومنهم من فضل ارتداء قميص إيطاليا، والآخر فضل التانغو.
إيطاليا مهد النجوم
حين نتحدث عن عظماء الكرة الأرجنتينية لا بد من أن نذكر اسم «دييغو آرماندو مارادونا»، الاسم الذي تعرفه نابولي ويعرفه العالم. علاقة مارادونا تكفي لتختصر القصة ما بين الشعبين. لعب مارادونا لنابولي منذ 1984 حتى 1991. حقق لقب الدوري الإيطالي وكأس الاتحاد الأوروبي والكأس السوبر الإيطالية. وفي مكان بعيد، في الشمال، حصة كبيرة للأرجنتين. لطالما حقق انتر ميلانو الإيطالي الألقاب والبطولات مع اللاعبين القادمين من الأرجنتين. نجوم النيراتزوري غالباً ما يقودهم أرجنتيني إلى منصات التتويج. المفارقة أن أبرز لاعبي إنتر ميلانو على الأطلاق كان برازيلياً، وهو الظاهرة رونالدو. لكن من الأسطورة زانيتي، مروراً بالمهاجم كريسبو والمهاجم الآخر ديغو ميليتو ومسمار خطي الوسط كامبياسو وفيرون وقلب الأسد والتر صامويل والمدافعين الآخرين بورديسيو وكامبانيارو والمهاجم كرزو، وأخيراً إيكاردي، كل هؤلاء تألقوا بقميص انتر ميلانو. قبل أعوام قليلة حصلت مذبحة في فريق بورجوازية الشمال الإيطالي، عندما خرج خمسة أرجنتينيين دفعة واحدة. إلا أن ذلك لم يزل اللمسة الأرجنتينية من هناك، ومن إيطاليا عموماً. هكذا فاق الأرجنتينيون «الطليان» عدداً. في «روسو-آزوري»، النادي السرديني، وفي موسم 2011 ــ 2012 مثلاً، كان كاتانيا الجنوبي يلعب بتشكيلة فيها 10 أرجنتينيين من أصل 11 لاعباً. وكان في الفريق 14 لاعباً جاهزين للمشاركة. نجوم الأرجنتين يتألقون في الدوري الإيطالي، كانوا ولا يزالون من أبرز المنافسين على لقب هدّاف «الكالتشيو»، بعدما فرضوا حضورهم في لائحة الهدافين مع فرق متعددة في «السيري آ». ماورو ايكاردي هو هداف هذا الموسم. بعده يأتي باولو ديبالا وهيغواين من اليوفي، وكلاهما أرجنتيني أيضاً. لا يخترق اللائحة إلا شيرو إيموبيلي. هيغواين سيكون بالمونديال الروسي مع المنتخب، إلى جانب ديبالا، وكذلك بيليا الذي يلعب في ميلان. ولكن إن عدنا إلى الأصول، كان يمكننا أن نراهم في منتخب آخر: إيطاليا.
أحياناً فاق الأرجنتينيون «الطليان» عدداً

دائماً ما تَشكّل منتخب إيطاليا من لاعبين ولدوا داخل هذا البلد الذي قدّم الكثير من الأسماء الرنانة لعالم كرة القدم على مرّ التاريخ، مثل روبرتو باجيو، باولو مالديني، باولو روسي، وفرانشيسكو توتي وجانلويجي بوفون وآخرين، لكن قلّة من اللاعبين الذين ارتدوا قميص الأتزوري ولدوا خارج مساحة القارة الأوروبية العجوز، ولدوا في بلاد الفضّة. ماورو جيرمان كامورانيزي سيرا، ولد بمدينة تانديل الأرجنتينية، وانضم لإيطاليا في 2003 واستمر في الدفاع عن ألوان إيطاليا حتى 2010. سجّل 4 أهداف في 55 لقاء، كما كان (الأرجنتيني) الوحيد الذي توّج بكأس العالم 2006 مع إيطاليا. كذلك، يحضر المهاجم الإيطالي بابلو دانييل أوزفالدو، الذي انضم للمنتخب الإيطالي في 2011، وخاض 14 مباراة سجل خلالها 4 أهداف.
وفي 1989 أنجبت مدينة تانتي في كوردوبا الأرجنتينية اللاعب فرانكو دارميان فاسكيز. مّثل إيطاليا منذ عام 2015 في لقاءين فقط، وأيضاً المدافع الإيطالي غابريال أليخاندرو بالتيا الذي كان لقاؤه الدولي الأول مع الآزوري في 2014، شارك في 3 مباريات، ومثّل منتخب الأرجنتين تحت 20 عاماً.
صحيح أن ميسي يلعب في صفوف المنتخب الأرجنتيني وأنه ميسي لكنه ذو أصول إيطالية أيضاً


والأهم من ذلك كله، ميسي. صحيح أن ميسي يلعب في صفوف المنتخب الأرجنتيني، وأنه ميسي، لكنه ذو أصول إيطالية أيضاً. ولد في «روزاريو» في محافظة «سانتا» الأرجنتينية، بعدما هاجرت عائلة والده من مدينة أنكونا في إيطاليا إلى الأرجنتين في 1883. في آذار/ مارس الماضي شهدت قائمة التانغو في مواجهة ايطاليا (مباراة ودية لُعِبت في مانشستر) حضور ليونيل ميسي، لكنه لم يشارك بسبب الإصابة. غالباً ما يطرح سؤال حول ما إذا كان أن يلعب ميسي في صفوف إيطاليا يوماً ما، ويطرح بكثرة حديثاً مع التعثر اللافت للمنتخب الارجنتيني والذي يضم لاعبين أغلبهم من أصول إيطالية. لا يوجد أي معلومات تشير إلى أي محاولة من الاتحاد الإيطالي لكرة القدم لإقناع ميسي لتمثيل الآتزوري عندما كان صغيراً، وذلك بالرغم من صراع الإسبان والأرجنتينيين للحصول على خدماته في ذلك الوقت. السؤال يبقى كيف أهدرت إيطاليا «فرصة العمر»؟ الإجابة ربما لا تكون صعبة. ميسي نفسه أراد الأرجنتين، أراد طفولته، وأن يرث مارادونا. نجم اليوفي الحالي باولو ديبالا وُضع أمام اختيار لتمثيل أحد المنتخبين، بالإضافة إلى بولندا التي يحمل جنسيتها أيضاً، لكنه فضل الدفاع عن قميص التانغو. في تصريح سابق له لجريدة «لا ريبوليكا» قال نجم السيدة العجوز «أشعر بأنني أرجنتيني بنسبة 100%، رغم أنني أبدو أجنبياً بهذه العيون الباهتة»، وتابع ممازحاً: «عندما كان عليّ الاختيار لم أتردد، لم أضع أمامي أي حسابات، كنت أعلم بأنني لن أواجه أي منافسة في إيطاليا أو بولندا، لكنني أردت اللعب للأرجنتين من دون طرح أي أسئلة أو التفكير في جوانب أخرى». ديبالا، هو الآخر، أراد أن يرث ميسي. بدوره، ماورو إيكاردي، المهاجم «غير المحبوب» في إيطاليا، رغم براعته، يحمل الجنسية الإيطالية إلى جانب الأرجنتينية، لكنه فضّل الأرجنتين. وها هو سامباولي يردّ له التحية على أفضل نحو، باستبعاده من التشكيلة الذاهبة إلى روسيا، على عكس صاحب الأصول الإيطالية الآخر، دي ماريا، الذي سيكون حاضراً إلى جانب الكبير ليونيل ميسي.
حرب المواهب في العالم، بين الأرجنتين والبرازيل، تميل في النهاية لمصلحة البرازيليين، إلى حدٍ ما. ولكن، كان السبب في التميّز الأرجنتيني بإيطاليا هو الجذور. العلاقة التاريخية بين الساقية والنهر، أو بين الدم والجسد: الأرجنتين وإيطاليا.