لندن | بخلاف الانتخابات الفرنسية المثيرة، والتي لن تُعرف نتيجتها النهائية إلا بعد الجولة الثانية الأحد المقبل، يمكن القول إن الانتخابات العامة المبكرة في بريطانيا، التي تنطلق اليوم، قد انتهت قبل أن تبدأ؛ إذ لم يَعُد سرّاً أن «حزب المحافظين» الذي يقوده رئيس الوزراء الحالي، ريشي سوناك (يمين الوسط)، والمهيمن على السلطة التنفيذية في المملكة منذ عام 2010، سيتلقّى هزيمة كبيرة، وربّما يحصل على أقلّ عدد مقاعد له في مجلس العموم خلال المئة سنة الأخيرة. ويصبّ ذلك خصوصاً في مصلحة «حزب العمل» بقيادة كير ستارمر، الذي سيحظى حتماً بغالبية تمكّنه من الانفراد بتشكيل الحكومة، وكذلك الأحزاب الثانوية، من مثل «الليبراليين الديموقراطيين»، «الأحرار» و«الخضر»، التي ستحصّل مقاعد إضافية، ودائماً على حساب «المحافظين». ومن المعلوم أن هيمنة «الحزب القومي الإسكتلندي» المُحكَمة على تمثيل إسكتلندا في البرلمان المنحلّ، ستتراجع لمصلحة «حزب العمل» أيضاً، وفوز عدد قليل من السياسيين المستقلّين، من مثل جيريمي كوربن، وكريغ موراي، وجورج غالاوي. ويبدو أيضاً أن نسبة الذين سيقترعون لمصلحة الحزبَين الكبيرَين، «المحافظين» و«العمل»، ستكون في أدنى مستوياتها التاريخية. ربّما، لا يمكن لأيّ حزب في الديموقراطيات الليبرالية الغربية أن يستمرّ في السلطة لمدة طويلة وينجو من اللوم؛ ولكن «المحافظين»، في خمس حكومات تعاقبت خلال 14 عاماً، أوصلوا بريطانيا إلى حالة يائسة بالفعل؛ إذ تراجع النموّ الاقتصادي، واقتربت القيمة الحقيقية للأجور إلى أدنى مستوياتها في 50 عاماً، بينما يقترب العبء الضريبي من مستوى قياسي لم يسجَّل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945). ويقبع ربع البريطانيين على الأقل، دون خطّ الفقر، في وقت تجاوز فيه الدين الحكومي أعلى مستوياته - منذ 60 عاماً - نسبةً إلى الناتج المحلّي. وفي موازاة ذلك، فإن البنية التحتية والخدمات العامة تتفكّك، فيما تتضاعف أسعار إيجارات المساكن، وسط تراجع مقلق في عدد الوحدات السكنية المبنية، فضلاً عن أن الجيش والقوى الأمنية في حال مستنفدة، فيما تسيطر معايير طبقيّة محضة على فرص التعليم والتوظيف، وتمتدّ صفوف الانتظار للعمليات الطبية لستة أشهر على الأقل، وينتشر الفساد بأشكال متعدّدة في أعلى مستويات السلطة، وتمتدّ توازياً أذرع العصابات وتجّار المخدرات إلى كافة المجتمعات بما فيها المدارس، وتتراجع مستويات معيشة الفئات الأقلّ حظّاً كالمرضى والمتقاعدين والعاطلين عن العمل شهراً بشهر، بفعل سياسة التقشّف المعتمدة.
يبدو أن نسبة الذين سيقترعون لمصلحة الحزبَين الكبيرَين، «المحافظين» و«العمل»، ستكون في أدنى مستوياتها التاريخية


وبالطبع، فإن «المحافظين» يلقون باللائمة في سوء الأوضاع، على صدمات عالمية: الأزمة المالية العالمية (2008)، و«كوفيد 19» (2019)، وحرب أوكرانيا (2022)، ولكنهم يتناسون سوء إدارتهم لهذه الأزمات، بل وأدوارهم في مضاعفة أضرارها، فضلاً عن إضاعة الوقت في بناء استقطابات ثقافية بين مكونات المجتمع البريطاني أنتجت في النهاية مشروع «المحافظين» الأثير في هذا القرن: «بريكست»، أو تخلّي بريطانيا عن عضوية الاتحاد الأوروبي، والذي تسبّب في أضرار فادحة للاقتصاد، وأضعف مكانة المملكة المتحدة دوليّاً. وفوق ذلك كلّه، تعاقَبت على منصب رئاسة الوزراء شخصيات هي أقرب إلى المهرجين منها إلى السياسيين الجادّين: ديفيد كاميرون، تيريزا ماي، بوريس جونسون، ليزا تروس، وريشي سوناك. وقضى جهابذة الحزب جلّ وقتهم في المشاحنات والفضائح الجنسية، وتزوير كشوف المصاريف الرسمية، بدلاً من البحث في سبل إدارة التحدّيات المفصلية التي تواجهها البلاد. وقد أدى كل ما تقدّم إلى النتيجة المحتّمة: تصدُّع قاعدتهم الشعبية وانفضاض الناخبين عنهم، ولا سيما في أوساط جيل الشباب، وأيضاً المجموعات الأقل دخلاً. وتشير استطلاعات الرأي الأحدث إلى أن الحزب قد يحصل على أدنى حصّة من المقاعد في مجلس العموم منذ قرن تقريباً - حوالى 100 مقعد مقارنة بـ345 في البرلمان المنحل -، إذ سيتّجه بعض مؤيّديه التقليديين نحو اليسار قليلاً، حيث «العمل» و«الليبراليين» في الوسط، بينما سيستجيب آخرون لإغراء أقصى اليمين، حيث يقول ثلث البريطانيين الذين صوّتوا لـ«المحافظين» في المرّة الأخيرة، إنهم سيدعمون «حزب الإصلاح» المناهض للهجرة، بقيادة نايجل فاراج. وبهذا، لن يكون الحزب قادراً حتى على لعب دور بنّاء في المعارضة بسبب الفقر المزمن في الأفكار، وانعدام الوجوه التي يمكن أن تحظى بثقة الجمهور مجدّداً، وغالباً، لن يتمكّن من العودة إلى السلطة قبل عقد على الأقلّ.
في المقابل، إن النظام السياسي البريطاني، القائم على أساس فكرة الحزبَين الكبيرَين، يفرض أن تصبّ مصائب «المحافظين» في مصلحة «العمل» بشكل أساسي، من دون أن تتوافر للبريطانيين خيارات حقيقية غيرهما، بحكم غياب هياكل حزبية منظّمة قادرة على العمل على المستوى الوطني سواهما. وهكذا، انتقل «العمل» من معارض هزيل لا يكاد يختلف في تموضعه السياسي عن «المحافظين»، إلى وريث ذهبيّ لهذه الفوضى التامة، والحزب المؤيَّد من الدولة العميقة لتولّي السلطة في البلاد، بعد قضاء زعيمه، كير ستارمر، منذ عام 2020، على الجناح اليساري في الحزب (تيار جيريمي كوربن)، وتخلّي عدد من الأعضاء عنه بسبب موقفه المؤيّد لإسرائيل في حربها على غزة. وستارمر الذي أبعد «حزب العمل» عن موقعه التقليدي كيسار للوسط، ليستقرّ به في وسط أقرب فعليّاً إلى اليمين، طعّم قيادات حزبه بشخصيات يمينية خالصة، وقدّم الولاءات المطلوبة منه شخصياً لتولّي السلطة، فحظي برضى الملك البريطاني تشارلز الثالث، وزار الولايات المتحدة والتقى بشخصيات بارزة، ونفّذ عملية تطهير علنية ضدّ كل مَن يشتبه بعدائه للسامية داخل الحزب، وأيّد الحرب الإسرائيلية على غزة، كما شذّب برامج الحزب من كل ما يمكن أن يزعج رؤوس المال ومصالح الأعمال وملاك الأراضي، حتى أن رجال الأمن اضطروا إلى إخراج ناشطة شابة من مؤتمر الحزب الأخير في مانشستر، بعدما قالت له: «أنت تقول إنك ستجلب التغيير، لكن كل ما تأتي به هو بضاعة حزب المحافظين القديمة التالفة».

يبدو أن نسبة الذين سيقترعون لمصلحة «المحافظين» و«العمل»، ستكون في أدنى مستوياتها


وتشير استطلاعات الرأي الأحدث إلى أن الحزب سيحصد، اليوم، غالبية تمكّنه من الانفراد بتشكيل الحكومة، ما يمهّد الطريق لخمس سنوات «ستارمرية» خالصة ستكون مضيعة إضافية للوقت بالنظر إلى خواء برنامج الحزب من أيّ تغييرات راديكالية في الأوضاع القائمة، فيما تواجه المملكة تحدّيات كبرى داخلية واستحقاقات خارجية، تبدأ من ملفّ العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ولا تنتهي بإمكان عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ويعتبر كثيرون، ستارمر، تجسداً جديداً لتوني بلير، رئيس «حزب العمل» الأسبق، الذي كان قد تولّى رئاسة الوزراء في التسعينيات، وجعل من الحزب منفّذاً مخلصاً للسياسات النيوليبرالية محلّياً، ومن بريطانيا تابعاً ذليلاً لأميركا في كل مغامراتها العسكرية الخارجية. ويخشى البعض من أن يفكّ ستارمر، فور فوزه، كل ارتباط لـ«حزب العمل» بالنقابات العمّالية، وأن يلعب دوراً متهوّراً ضمن جوقة حلفاء واشنطن في ما يتعلّق بالحرب الأوكرانية، بعدما تخلّى مسبقاً عن خطط التحوّل البيئي، وألغى تعهّد الرئيس السابق للحزب، جيريمي كوربن، باستعادة شركات الطاقة والمياه والقطارات إلى ملكية القطاع العام.
وتشير التوقعات إلى احتمال فوز «العمل» بما بين 450 إلى 499 مقعداً في مجلس العموم، ما من شأنه أن يكسر الرقم القياسي لأكبر عدد من المقاعد تم الفوز بها على الإطلاق في الانتخابات البريطانية، عندما حصل «المحافظون» على 447 مقعداً في انتخابات عام 1931. لكن الأرقام المشار إليها لا تعكس بالضرورة إقبال الناخبين على المشاركة، إذ يمكن أن يحصل «العمل»، مثلاً، على كل هذه الغالبية الساحقة بعدد أصوات أقلّ من تلك التي حصل عليها الحزب في انتخابات عام 2019، وتسبّبت له حينها في خسارة فادحة، ما يعني أن تبادل المقاعد بين الحزبَين الكبيرَين لن يخفّف من السخط الذي يملأ قلوب الأكثرية، وأن عدداً من التوترات والأزمات التي خلقها «المحافظون» سيبقى على حاله، من دون تغيير يذكر. ويُتوقّع أن يحصل «الإصلاح» على خمسة مقاعد على الأقل، ومثله «الخضر»، كما يمكن لـ «الليبراليين» السيطرة على حوالى 60 مقعداً، بينما يعاني «القومي الإسكتلندي» من أزمة قيادة ستجعل احتفاظه بالـ43 مقعداً الحالية أمراً صعباً في المجلس الجديد. أمّا الغائب الدائم عن الانتخابات البريطانية، والذي سيتكرر غيابه الآن، فيظلّ دائماً اليسار، رغم تعدُّد وجوهه (أكثر من 27 حزباً ومنظمة وتياراً)؛ وليس مردّ ذلك بالطبع إلى عدم اقتناع اليساريين بالنظام الملكي وديموقراطية برلمان الحزبَين الكبيرَين، بقدْر ما هو هزال ماكينات الأحزاب المذكورة وانعدام القدرة العملية لديها على خوض الانتخابات.
لكن الاختراق المتوقّع في كل هذا العبث الديموقراطي، سيكون وصول ثلّة من المشاغبين: اليساري المطرود من «حزب العمل» جيريمي كوربن، وزعيم «حزب العمال» جورج غالاوي، والديبلوماسي كريغ موراي، إلى عضوية المجلس. إذ يمكن لهؤلاء أن يسهموا في إثارة الجدل حول بعض القضايا، ولكنهم في المحصلة لن يقدّموا، أو يؤخّروا، أو حتى يخفّفوا على أكثرية البريطانيين من أوجاع التغيير، الذي يشبه كل شيء إلّا التغيير.