كما في الستينيات، حين كانت القارة الأفريقية حافلة بالتقلّبات الجيواستراتيجية الحادّة على خلفية انحياز دولها إلى المعسكرَين الشرقي أو الغربي، يستعر حالياً صراع أميركي - روسي في واحدة من أفقر دول العالم: النيجر. وفيما تحلّ هذه الأخيرة في المرتبة الـ188 عالميّاً (2022)، وفقاً لمؤشّر نصيب الفرد من الناتج المحلي، فإنها تتمتّع بموارد معدنية بالغة الأهمية بالنسبة إلى القوى الكبرى، فضلاً عن موقعها في قلب غرب أفريقيا، ولعبها دوراً بارزاً في ترتيبات فرنسا والولايات المتحدة وداعميهما، للأمن في إقليم الساحل على مدى نحو عقد كامل. وباتت النيجر، بفعل التحوّلات السياسية المتسارعة منذ انقلاب تموز 2023، تمثّل قاعدة لتوغّل نفوذ القوى الدولية والإقليمية المناوئة للسياسات الأميركية في القارة السمراء، وعلى رأسها الصين وروسيا وإيران. ويعني ما تقدَّم، أن النيجر أضحت ساحة جديدة للصراع، مفتوحة على السيناريوات كافة، ولا سيما بعد وصول دفعة من «فيالق أفريقيا» الروسية إلى العاصمة نيامي، مساء الـ11 من الجاري، رفقة معدات عسكرية متطوّرة، في مقدّمتها «نظام دفاعي» روسي لتدريب عناصر الجيش النيجري عليه.
«فيالق أفريقيا» في مواجهة «الدرونز» الأميركية
لم تكد صحيفة «فيدوموستي» الروسية تعلن تشكيل «فيالق أفريقيا» (كانون الأول 2023)، حتى بدأت بصمات هذه المجموعة العسكرية تظهر في إقليم الساحل، مع إرسال قوّة قوامها 100 عنصر إلى بوركينا فاسو في نهاية الشهر نفسه، ثم دفعة أخرى إلى النيجر منتصف الشهر الجاري. وتزامنت هذه الخطوات مع خطط معلنة لنشر نحو 50 ألفاً من عناصر «الفيالق» (غالبيتهم من عناصر مجموعة «فاغنر») في دول أخرى في أفريقيا جنوب الصحراء، أبرزها مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، اعتباراً من الصيف المقبل، علماً أن تلك الدول باتت توصف في الميديا الغربية («ديبلوماتيك كوريير » - 12 نيسان) بالمعادية للولايات المتحدة و«الناتو» وفرنسا، القوة الاستعمارية السابقة. وفيما مرّ وصول «الفيالق»، التي تتبع وزارة الدفاع الروسية ويشرف عليها نائب الوزير يونس بيك يافكوروف، من دون ضجّة في بوركينا فاسو، فإنها أثارت اهتماماً أميركيّاً في النيجر، لتزامنها مع استمرار الاحتقان الديبلوماسي والأمني بين واشنطن ونيامي، وتصاعد الضغوط الشعبية على القيادة النيجرية الحالية للإسراع في طرد القوات الأميركية (نحو ألف جندي) العاملة في قاعدتَين في البلاد، ومعها عدد كبير من «الدرونز» المخصّصة لـ«مكافحة الإرهاب والجريمة المنظّمة» في دول الساحل الأفريقي.
بات واضحاً من ردّ الفعل الأميركي على تطوّرات الصلات الروسية - النيجرية أن الأزمة بين البلدين قابلة للتصعيد


وعمليّاً، فإن طبيعة القوات الروسية التي وصلت النيجر، والمعدات التي في حوزتها، ستمثّل قيمة مضافة لجهود نظام عبد الرحمن تشياني في إعادة بناء القوات المسلّحة وتوسعتها (على غرار ما جرى في مالي قبل أقلّ من عامين). وفي المقابل، فإن «قاعدة النيجر الجوية 201» الموجودة في مدينة أغاديس في وسط البلاد، والتي تديرها القوات الأميركية، باتت معطّلة عن العمل، منذ منتصف العام الماضي، فيما لم يؤثّر ذلك بشكل ملموس على أدوار الجيش النيجري، أخذاً في الحسبان أن القاعدة كانت تُستخدم في الأساس كمركز استخباراتي لجهود الجيش الأميركي في مواجهة الإرهاب في شمال أفريقيا وغربها. ولكن تعطّلها هو بمنزلة بتر للساق الأميركية في النيجر مع بقائها في جيبوتي؛ وهما نقطتا ارتكاز «الدرونز» الأميركية الناشطة في القارة الأفريقية.

واشنطن وباريس: جولة جديدة؟
بات واضحاً من ردّ الفعل الأميركي على تطوّرات الصلات الروسية - النيجرية، وتمسُّك نيامي بطرد القوات الأميركية، أن الأزمة بين البلدين قابلة للتصعيد، وأن ما تردّده الخارجية الأميركية من وقت إلى آخر بخصوص التشاور مع النيجر، التي طالبت الولايات المتحدة، في نهاية آذار الماضي، بتقديم خطّة لتفكيك القوّة الأميركية المتمركزة في البلاد، مجرد استهلاك للوقت ريثما تتمّ إعادة صياغة سياسة جديدة تجاه القارة الأفريقية، وفقاً لما لمّحت إليه وسائل الإعلام الأميركية («فورين بوليسي» - 15 الجاري).
أما باريس، التي طُرد سفيرها من نيامي في أيلول 2023 (لتقرّر بعدها بأسابيع قليلة غلق سفارتها إثر مغادرة جميع جنودها ومواطنيها البلاد)، فلا تزال تعاني صدمةَ طرد كامل قواتها من مالي ثم من بوركينا فاسو وأخيراً من النيجر، والتي زادت من وطأتها زيارة رئيس تشاد، محمد إدريس ديبي، إلى موسكو لمقابلة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين (يناير الماضي)، في أعقاب أيام قليلة من اكتمال وصول القوات الفرنسية المطرودة من الدول الثلاث إلى آخر معاقلها في العاصمة التشادية إنجامينا. ويلاحَظ تحفّظ باريس راهناً عن التورّط المباشر في الشأن النيجري، رغم خطورة تعميق علاقات نيامي بموسكو على مجمل المصالح الفرنسية في غرب أفريقيا والساحل. إذ اكتفت، على لسان وزير أوروبا والشؤون الخارجية خلال جولته الأفريقية التي شملت كينيا ورواندا وساحل العاج، بتأكيد عملها على تجديد صلاتها بأفريقيا وبناء «شراكات متوازنة» تفيد فرنسا والقارة معاً، وأنها ستعزّز نظرتها إلى القارة كأولوية ليس فقط من الجانبَين التاريخي والأمني، ولكن أيضاً من الجوانب الاقتصادية والثقافية والمجتمعية.
لكن هذا الفتور الأميركي - الفرنسي لا يعني بالضرورة عدم الاستعداد لجولة جديدة في الإقليم لمواجهة الوجود الروسي، إذ يُرجّح أن تقدِم واشنطن وباريس على العودة عبر مجموعة من الشركاء في الإقليم مثل ساحل العاج ونيجيريا وربما المغرب، الذي تعهّدت باريس أخيراً بالاعتراف بسيادته الكاملة على الصحراء الغربية، مع ما يعنيه ذلك من تداعيات لن تقتصر على دول عربية، بل ستمتدّ بالضرورة إلى مجمل الأوضاع في إقليم الساحل.

مناورة نيامي الناجحة؟
يبدو أن نيامي حقّقت مكاسب بالجملة من تحوّلات علاقاتها مع الولايات المتحدة وفرنسا، ليس على صعيد تمتين العلاقات مع «مناوئي الغرب» من مثل روسيا والصين فقط، بل مع عدد من الدول الغربية الأخرى، وأبرزها إيطاليا التي أعلن وزير خارجيتها، أنطونيو تاجاني، الشهر الماضي، نية بلاده إرسال عدد من كبار المسؤولين في الوزارة (أبرزهم الأمين العام لوزارة الشؤون الخارجية، ريكاردو جواريجليا) إلى نيامي لاستكشاف سبل استدامة التعاون الثنائي بين البلدين، علماً أن روما سبق أن ناهضت بشكل صريح مقترح التدخّل العسكري الذي قدمته باريس ودعمته واشنطن، غداة انقلاب تموز في نيامي.