هي الهزيمة الأولى «كاملة المواصفات» التي يتلقّاها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على امتداد ثلاثين عاماً من مسيرته السياسية الحافلة بالانتصارات؛ إذ شكّل تخطّي «حزب الشعب الجمهوري»، وللمرّة الأولى، النسبة التي نالها «حزب العدالة والتنمية»، ما يمكن عَدُّه كسراً تاريخيّاً لـ«الخطوط الحمر»، ليس فقط منذ عام 2002 بل منذ عام 1977. ومن هنا، أصبح يمكن القول إن انتخابات الـ31 من آذار 2024 البلدية في تركيا، أبطلت مفاعيل انتخابات أيار 2023 الرئاسية والنيابية، في اتّجاه تصفير عدّاد الصراع السياسي، والبدء بمرحلة جديدة تعيد خلط الأوراق. فللمرّة الأولى منذ وصوله إلى السلطة في عام 2002، يتعرّض «العدالة والتنمية» في ظلّ زعامة إردوغان، لهزيمة كاملة على مستوى تركيا، ويكتسب صفة «الحزب الثاني». وللمرّة الأولى منذ 47 سنة، يتقدَّم «الشعب الجمهوري» سائر الأحزاب في الانتخابات البلدية، ويحقّق نسبة 37.75% مقابل 35.48% للحزب الحاكم، وبفارق حوالى المليونَي صوت (17 مقابل 15 مليوناً)، ويكتسب صفة «الحزب الأول»، بزيادة 7% عن عام 2019، علماً أن الحزب المعارض كان قد احتلّ، بزعامة بولنت أجاويد، المركز الأول في الانتخابات النيابية لعام 1977 بنسبة 41.4%. ورغم تراجع الإقبال على الاقتراع مقارنةً بانتخابات أيار 2023، إلا أن النسبة قاربت الـ80%.وفيما اعترف إردوغان بالهزيمة، واعتبرها بمنزلة «رسالة» من الناخب، واعداً بتصحيح الخلل، بدت المعارضة التي لم يستطع تكتُّلها، «تحالف الأمّة»، أن يسقط إردوغان في معركة الرئاسة، ونجحت في تحقيق انتصار غير مسبوق، رغم دخولها الانتخابات البلدية مفكّكة، وكأنها انبعثت من جديد. ويأتي ذلك بعد أشهر قليلة فقط من تبوّء أوزغور أوزيل رئاسة «الشعب الجمهوري»، خلفاً لكمال كيليتشدار أوغلو، علماً أن فوز الحزب لم يكن على مستوى تركيا فحسب، بل أحكم قبضته على المدن الرئيسية التي كان «العدالة والتنمية» يأمل في استعادة بعضها، من مثل إسطنبول وأنقرة، فضلاً عن إزمير.
وإذ خالفت النتائج رهانات إردوغان، فهي جاءت على الشكل الآتي:
1- رغم تسخير الرئيس كل إمكانات الدولة دعماً لمرشّح «العدالة والتنمية»، نجح أكرم إمام أوغلو في الاحتفاظ برئاسة بلدية إسطنبول، حاصداً 51.14% من الأصوات (4 ملايين و432 ألف صوت)، بعدما كانت الاستطلاعات تشير إلى تقارب النتائج بينه وبين مرشّح السلطة، مراد قوروم، الذي حصل على 39.59% (3 ملايين و431 ألف صوت). ونجح «الشعب الجمهوري»، في الوقت نفسه، في تحصيل الغالبية المطلقة في المجلس البلدي للمدينة بـ188 عضواً، مقابل 130 لـ«العدالة والتنمية»، واثنين لـ«حزب الحركة القومية».
2- حقّق مرشّح «الشعب الجمهوري» في أنقرة، منصور ياواش، انتصاراً كبيراً على منافسه عن «العدالة والتنمية»، طورغوت ألتين أوق، قارب الـ30 نقطة، إذ نال الأول 60.38% (مليوني صوت)، مقابل 31.68% (مليون صوت) للثاني.
3- في إزمير، أو ما يُطلق عليها «قلعة العلمانية»، فاز مرشّح «الشعب الجمهوري»، جميل طوغاي، على منافسه حمزة داغ بفارق كبير بلغ 12%، إذ حصل على 49% (مليون و300 ألف صوت)، مقابل 37% (977 ألف صوت) الأخير.
4- إلى هذه المكاسب، تمكّن «الشعب الجمهوري» من إحداث مفاجأة كبيرة بانتزاع رابع مدينة صناعية في البلاد، وهي بورصة، من يد «العدالة والتنمية»، بعدما فاز مرشّحه، مصطفى أوزباي، على ألينور آقطاش، بفارق عشر نقاط (48% مقابل 38%).
5- أيضاً، فاز «الشعب الجمهوري» في 35 مدينة رئيسية، منها: أنتاليا، مرسين، أضنة، إسكي شهر، مانيسا وغيرها، فيما فاز «العدالة والتنمية» بـ24 بلدية رئيسية، منها: قونية، طرابزون، قهرمان مراش وريزه. وكانت المعركة طاحنة في هاتاي (لواء الإسكندرون)، حيث خسر رئيس البلدية الحالي التابع لـ«الشعب الجمهوري»، لطفي صواش، مقابل مرشّح «العدالة والتنمية»، محمد أونتورك، بفارق أقل من 1%.
«حزب الرفاه من جديد» بات يشكّل «حصان طروادة» داخل الحالة الإسلامية


ولعلّ من أبرز مفاجآت الانتخابات البلدبة، ما حقّقه «حزب الرفاه من جديد»، بزعامة فاتح نجم الدين إربكان، النجم الجديد الصاعد في سماء الحياة السياسية؛ إذ تمكّن حزبه من أن يحتلّ المركز الثالث بعد «العدالة والتنمية» - وإنْ بفارق كبير جداً - بحصوله على نسبة 6.19%. لا بل استطاع مرشّح «الرفاه»، محمد غولبينار، أن يهزم مرشّح «العدالة والتنمية»، زين العابدين بياض غول، في إحدى أهم البلديات في جنوب شرق البلاد، شانلي أورفة، المحاذية للحدود السورية، بنسبة 38.86% مقابل 33.63%.
ومن بين المفاجآت أيضاً، تراجُع «حزب الحركة القومية»، بحصوله على نسبة 4.98%، وثماني بلديات رئيسية، ليحتلّ المركز الخامس، علماً أنه كان قد حصل على 7.31% من الأصوات في عام 2019. وحلّ في المركز الرابع «حزب الديموقراطية والمساواة للشعوب» الكردي، إذ نال 5.7%، وتمكّن من السيطرة على عشر بلديات في المناطق ذات الغالبية الكردية، وهي: ديار بكر، ماردين، باتمان، سعرت، موش، فان، حقاري، آغري، إيغدير وتونجلي، فيما خسر بلدية قارص أمام «الحركة القومية»، كما بلديتَي بتليس وشيرناق لمصلحة «العدالة والتنمية». أمّا الخاسر الأكبر في الانتخابات، فكان «الحزب الجيّد» المعارض الذي لم يربح سوى بلدية رئيسية واحدة، هي نيفشهر في وسط تركيا، مع حصوله على نسبة 3.77% على مستوى البلاد، بعدما نال 7.45% في عام 2019، فيما ارتفعت الأصوات المطالبة بتنحية زعيمته، مرال آقشينير.
على أنه لا يمكن إرجاع خسارة «حزب العدالة والتنمية» إلّا إلى العامل الاقتصادي أولاً؛ فقد انهارت القدرة الشرائية للمواطن، وتراجع سعر صرف الليرة بنسبة 60% عمّا كان عليه قبل عشرة أشهر. وإذ سمّى البعض هذه الانتخابات بـ«انتخابات المتقاعدين»، نظراً إلى حجمهم الكبير، وسخطهم من جرّاء انهيار سعر الصرف وعدم تعويضهم بزيادات مناسبة، فإن التصويت ضدّ إردوغان كان بمنزلة رسالة احتجاج وغضب من الفئات التي ازدادت فقراً من جراء السياسات الريعية والإنفاق العبثي من دون ضوابط ولا رقابة. أمّا القفزة في الأصوات التي حقّقها «الرفاه من جديد»، فالأرجح أنها تعود إلى فئات متدينة مؤيدة للقضية الفلسطينية، بعضها من «حزب العدالة والتنمية» ويعترض على سياسات إردوغان في مواصلة العلاقات التجارية لتركيا مع إسرائيل، وعدم مبادرة الدولة إلى أيّ خطوة لوقف هذه التجارة. وقد اختار هؤلاء «حزب الرفاه» نظراً إلى أنه يمثّل العنصر الشاب من التيار الإسلامي الجديد، بخلاف «حزب السعادة» المعارض أيضاً بشدّة للعلاقات مع إسرائيل، ولكنه يعكس الطبقة القديمة من تيار نجم الدين إربكان.
ومن شأن نتائج الانتخابات البلدية الأخيرة، أن تترك تداعيات كبيرة على المشهد السياسي الداخلي وربّما الخارجي، لعلّ أبرزها ما يلي:
1- فوز أكرم إمام أوغلو برئاسة بلدية إسطنبول ربّما يشكّل القلق الأكبر بالنسبة إلى إردوغان شخصيّاً، الذي كان يأمل في إقصاء أكبر منافس له على الساحة السياسية، ذلك أن له حظوظاً كبيرة للفوز بالرئاسة في حال كان المرشّح المقبل للرئاسة ضدّ إردوغان. من هنا، جاءت تسمية معركة إسطنبول بـ«معركة رئاسة الجمهورية لعام 2028». أيضاً، لا يقلّ منصور ياواش (1955)، بعد فوزه الكبير، وزناً عن إمام أوغلو في الانتخابات الرئاسية المقبلة، مع فارق أن سن الشباب يعمل لمصلحة إمام أوغلو (1970).
2- كان إردوغان يراهن على الفوز في إسطنبول على الأقلّ، ليقول إنه قويّ بما يكفي ليحاول تعديل الدستور بما يتيح له الترشّح مرّة أخرى للرئاسة، وهو قد لا يجد الآن مبرّراً لطلب التعديل أو عدداً كافياً من النواب للمضيّ في هذه الخطوة، علماً أنه لا يملك مع حليفه، «الحركة القومية»، العدد الكافي من النواب لا للتعديل داخل البرلمان (ثلثا المقاعد)، ولا لإحالة اقتراح أيّ تعديل إلى استفتاء شعبي (ثلاثة أخماس المقاعد).
3- يدرك الرئيس التركي أن «حزب الرفاه من جديد» بات يشكّل «حصان طروادة» داخل الحالة الإسلامية، فيما أضحى زعيمه، إربكان، وجهة الفئات الإسلامية المعارضة لسياسات إردوغان الاقتصادية والخارجية، وهذا قد يأكل من رصيد «العدالة والتنمية». لذا، سيتّجه الرئيس أولاً إلى ترتيب الأوضاع الداخلية لحزبه بعد الترهّل الذي بدأ يضربه، وعقْم اجتراح شخصيات جديدة، بعدما اختزل إردوغان الحزب بشخصه. ويمكن الرئيس أن يحمّل الفريق المكلّف إدارة الملف الاقتصادي، وفي مقدمته وزير المالية محمد شيمشيك، جانباً من مسؤولية الهزيمة.
وبعد الخسارة، ربّما يستفيق إردوغان على خطأ سياساته المتعاونة مع إسرائيل، بعدما بات شائعاً في تركيا أنه وجد الردّ على خذلانه غزة، في صناديق الاقتراع. على أن الأكيد أن تركيا ستكون، بعد الزلزال الذي أحدثته نتائج الانتخابات البلدية، أمام مرحلة جديدة تعيد الأحزاب خلالها تشكيل أجنداتها: السلطة في اتّجاه مراجعة نقدية لسياساتها منعاً لمزيد من الضمور، والمعارضات من أجل تشديد الخناق على السلطة تمهيداً لإسقاط تحالف النزعة الدينية - القومية الذي يمثّله حزبا «العدالة والتنمية» و«الحركة القومية». وليس من فراغ، قياساً إلى النتائج، أن يدعو «حزب الرفاه» إلى انتخابات مبكرة، لأن«الحريق بات في المطبخ»، بعدما بات 90% من السكان تحت خطّ الفقر، و56% تحت خطّ الجوع، وفقاً لتصريح محمد ألتين أوز، مرشّح الحزب لرئاسة بلدية إسطنبول.