لا تستوي مقولة من نوع «حياة المرء قصيرة مهما طالت» مع سيرة ذاتية كتلك التي للرئيس الروسي، فلاديمير بوتين. فالرجل عاصر كل زعماء الاتحاد السوفياتي، إلا لينين. صحيح أن عمره كان عاماً واحداً عندما توفي ستالين، واثني عشر عاماً عندما عُزل نيكيتا خروتشوف من منصبه، إلا أن ذلك لا يلغي أنه عاصرهم. أنفاسهم كانت حاضرة في الفضاء السوفياتي كلّه. أيضاً، أبصر النور وتعلم أن اسم مدينته لينينغراد. وعندما أضحى بعمر الأربعين، بات لزاماً عليه القول إن مسقط رأسه هو سان بطرسبورغ. كما عاصر المجد والقوة السوفياتيين عند يوري أندروبوف، ثم الانهيار في زمن ميخائيل غورباتشوف. وفي زمن بوريس يلتسين، شاهد بأم العين كيف أضحى الكرملين، رمز العزّة الروسية منذ زمن القياصرة، مجرّد ملحق بالسفارة الأميركية في موسكو، قبل أن يقرّر هو استعادة «المجد الغابر»، بخطى أثارت إشكالية كبرى، لكنها كانت في تراسيمها وملامحها واثقة بدرجة أثارت القلق.
أيّ «كرت ذاكرة» يحتمل كل ذاك دفعة واحدة؟
فجر 7 تشرين الأول 1952، وُلد فلاديمير . ولربما كانت البيئة المحيطة شديدة التأثير في نفسية الفتى الذي لم يأمن جانب أحد في صعوده درج الحياة والمستقبل، ثم صعوده الصاروخي نحو السلطة. ولربما شكّل ذلك، أيضاً، مبرراً لالتحاقه بجهاز الاستخبارات السوفياتي «كي جي بي» الذي انضم إليه في الـ23 من عمره، لتكون الدروس الأولى في ألمانيا الشرقية التي كانت تمتلك جهازاً استخباراتياً يقارع أعتى أمثاله في العالم. هناك، سوف تتشكّل المعارف الأولى للمهنة مع محطّات سيكون من شأنها «تصليب العود» في انتظار رياح هوجاء كانت المعطيات كلها تشير إلى أن الأخير سوف يكون على موعد معها.
في 9 تشرين الثاني 1989، كان بوتين على موعد مع مواجهة ستفضي إلى واحد من أهم الأحداث في التاريخ الحديث، وهو انهيار جدار برلين، لتنفرد واشنطن بالهيمنة العالمية التي لا تزال قائمة حتى الآن، رغم الطعنات العديدة التي أصابت نسيجها. في ذلك اليوم، اتجهت حشود الهائجين نحو مقر الشرطة السرية «شتازي» في درسدن، ثم انتقلت نحو الفيلا البيضاء في شارع أنجيليكا، والتي كانت المقر الرسمي لجهاز «كي جي بي» في المدينة، مهدّدة باقتحامه. وفي حمأة الهيجان، سيخرج المقدم بوتين، الذي خلا مقره سوى من بضعة عناصر، إلى مواجهة ستحدّد الكثير من معالم شخصيته ورؤاه. وبصوت خفيض واثق، قال إن «ما تحاولون اقتحامه هو أرض سوفياتية» ، وإن المقر «مليء بالرفاق المسلحين الذي لديهم الإذن بإطلاق النار في حالات الطوارئ»، ثم أدار ظهره متجهاً صوب الدرج المودي نحو الطابق العلوي. وقبل أن تطأ قدمه الدرجة الثامنة، وفقاً لرواية أحد عناصر المقر، تفرّق الحشد. مثل هذا التصرف الذي يشي بـ«الخداع الإستراتيجي»، سيعمل بوتين على استخدامه في ما بعد، عام 2014، عندما أعلن عن ضم شبه جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، وكذلك عام 2022، عندما أعلن عن إطلاق «العملية العسكرية الخاصة» في أوكرانيا.
بنى نظاماً يتمحور حول شخصه، لكن مشروعه الرامي إلى وضع حد للهيمنة الغربية قد يعطيه «العذر» التاريخي لذلك


بعد تلك الحادثة، استُدعي بوتين إلى لينينغراد ليكون شاهداً على انهيار الاتحاد السوفياتي في اليوم الأخير من عام 1991، وسيستخلص درساً قاسياً ثانياً مفاده أن «الخرائط الملونة لا تحمي دولاً ولا حدوداً». وبحلول عام 1996، أطلق الرجل في اتجاه موسكو أشرعته، التي وحْدها تتيح الفرصة لأحلام من نوع «ترميم وطن». سيجري تعيينه في منصب صغير اسمه: نائب رئيس إدارة الممتلكات الرئاسية، ليقبع فيه عامين كاملين كانا كافيين لتهيئة الذات وترتيب الأوراق تمهيداً للتربع على عرش جهاز الأمن الفيدرالي، وريث «كي جي بي» الذي كان يرأسه أستاذه أندروبوف في ما سبق. وقبل أن يُتم العام في منصبه، سيجري تعيينه رئيساً للوزراء. كان كل شيء، وعلى رأسه السرعة وثبات الخطى، يشي بأن «حبْله» بات قاب قوسين أو أدنى من الإطباق على «عنق» السلطة، الأمر الذي لم يستغرق أكثر من أربعة أشهر حتى غدا مكتمل الشروط.
في العاشرة صباحاً من اليوم الأخير في عام 1999، دخل يلتسين استديو صغيراً أُعدّ لغرض مستعجل. وعلى مدى 30 دقيقة، ألقى كلمة أعلن فيها تخلّيه عن جميع المناصب التي يشغلها في الاتحاد الروسي. في حينها، سرت تكهنات من بعض المقربين عن أن «قلم» بوتين هو من اختط كلمات التخلّي، فيما ذكرت شهادات من البعض أن بوتين كان قد «حاصر» رئيسه بعدد من الملفات، قائلاً له إن ثمن طيّها هو القيام بما فعله صبيحة ذلك اليوم. ولربما كان في الأمر ما يدعو إليه، بالنسبة إلى فرد انغرس «المجد» الروسي بين ثنايا عقله وشغاف قلبه، وهو يرى أن بقاء رئيسه في منصبه سيعني إجهازاً على ما تبقى من ذلك المجد.
كان بوتين عشية اعتلاء السلطة في موسكو في آذار 2000، مدركاً جيداً خفايا مهنة «البناء» وماذا تتطلّب. فلكي تنجح أي تجربة من هذا النوع، لا بد من اعتمادها على ثالوث ارتكازي يقوم على منهج معرفي، وخط سياسي وأيديولوجيا، ثم على مفهوم للتنظيم الذي يرمي إلى وضع قوى المجتمع وتياراته الفاعلة في قوالب نشطة قادرة على دفع العربة إلى الأمام. وفي الأول، اختار الاستناد إلى نزعة روسية جديدة بعيدة عن «التغريب»، فيها تتلاقى الكنيسة الأرثوذكسية مع التوجه نحو «عالم سلافي». وبذلك، كانت المنهجية أقرب إلى أفكار ألكسندر دوغين الذي عمل عبر أفكاره على تجديد «الأوراسية» بالتزامن مع صعود بوتين إلى السلطة. وفي الثاني، أي الخط السياسي، ذهب الأخير نحو ضرورة أن يكون شبه متطابق مع الأول بدرجة تشبه إلى حد بعيد السلوكيات المعروفة عند «البلاشفة». أما في الثالث، فقد اختار الضغط على القوى المجتمعية والاقتصادية لكي تكون أكثر طواعية للسير في المشروع، لكن من دون دفعها إلى التخلي عن «النيوليبرالية» التي انغرست في المجتمع الروسي عميقاً، رغم أن شهادة ميلادها تقول إن عمرها لم يتعد بعد العشرة، هي المدة التي أقام فيها يلتسين في السلطة.
كانت ترجمة ذلك كله قد بدأت تباعاً في جورجيا في آب 2008، ثم في شبه جزيرة القرم في آذار 2014، وصولاً في شباط 2022 إلى أوكرانيا، التي قال إن لينين «صانعها ومهندسها المعماري». والمؤكد هو أن ذلك التوصيف صحيح تاريخياً، لكن في كثير من الحالات لم يكن التاريخ هو «القابلة» التي تستولد الدول والكيانات.
بين 15 و17 آذار الجاري، كان بوتين على موعد مع تجديد إقامته في الكرملين، والتي لا ينافسه عليها أحد. وفي جردة حساب الـ24 سنة الماضية، يمكن القول إنه بنى نظام حكم يتمحور حول شخصيته بالدرجة الأولى، لكن الموضوعية تقتضي القول أيضاً إن مشروعه الرامي إلى وضع حد للهيمنة الغربية على العالم، سيعطيه «العذر» التاريخي لذلك... ألا تقاس الأمور غالباً بخواتيمها؟