تُظهر تجربة حاكم فلوريدا الحالي، رون ديسانتيس، وهو المرشّح الوحيد الذي يُرجّح المراقبون أنه قادر على منافسة دونالد ترامب في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري التي ستحدّد من سيمثّل هذا الأخير في الانتخابات الرئاسية لعام 2024، أنّ ما من مرشّح قادر، حتى الآن، على «جمع» التناقضات الحادّة في أوساط الحزب وقاعدته الشعبية، في وقت يشهد فيه المجتمع الأميركي بأكمله استقطاباً حادّاً وحرباً ثقافية ضروساً، بات واضحاً أنّها ستحدّد، بشكل غريب، مصير أيّ مرشّح إلى حدّ كبير، على رغم المشاكل الأكثر جدّية وجذرية التي تواجهها البلاد رون ديسانتيس، من مواليد ولاية فلوريدا عام 1978، هو سياسي جمهوري أميركي يشغل، منذ عام 2019، منصب حاكم فلوريدا، بعدما كان سابقاً عضواً في مجلس النواب الأميركي بين عامَي 2013 و2018. بعد حصوله عام 2001 على شهادة في التاريخ، عمل لفترة قصيرة مدرّساً في مدرسة إعدادية، قبل أن ينتقل إلى دراسة القانون في «جامعة هارفارد». خلال تلك الفترة أيضاً، دخل إلى صفوف القوات «البحرية الأميركية» عام 2004، وأصبح ضابطاً في «جهاز القاضي العسكري العام» التابع لها، وأمضى، خلال خدمته، فترةً في القاعدة البحرية في خليج غوانتانامو، حيثُ «معتقل غوانتانامو» السيّئ السمعة. كما أُرسل إلى العراق، حيث شغل منصب المستشار القانوني لقائدٍ في «قوة العمليات الخاصة» للبحرية الأميركية، لينال في ما بعد النجمة البرونزية «تقديراً لخدماته». وفي عام 2010، ترك الخدمة الفعلية، إلّا أنه ظَلّ في احتياطي البحرية الأميركية.
عام 2018، أعلن ديسانتيس ترشّحه لمنصب حاكم فلوريدا. وعلى الرغم من حظوظه «الضعيفة» في البداية، إلّا أنه تمكّن من تجاوز انطلاقته الوعرة، ليفوز بسهولة في الانتخابات التمهيدية للحزب الجمهوري. على إثره، ترك ديسانتيس مقعده في مجلس النواب ليتفرّغ للانتخابات، التي شهدت منافسة محتدمة بينه وبين الديموقراطي، أندرو غيلوم، الذي كان يطمح إلى أن يصبح أوّل حاكم أميركي من أصل أفريقي للولاية. وعقب دعم ترامب له، فاز ديسانتيس بفارق ضئيل، بعدما حاز 49.6 مقابل 49.2 في المئة لمنافسه، وهذا ما يبرّر على الأرجح «النقمة» عليه في أوساط بعض داعمي ترامب، الذين يرون أن ديسانتيس صعد «على أكتاف» الرئيس السابق، ليعود، في ما بعد، ويترشّح لمنافسته على الرئاسة.
لعلّ أكثر ما طبع مسيرة ديسانتيس هو العداء لما يُعرف بحركات «Woke» (أو «استيقظت»)، وهو مصطلح كان يمثّل لعقود «الوعي» إزاء حقوق السود، قبل أن يَبرز إلى الواجهة مجدّداً مع موجات الحركات النسوية، واحتجاجات «حياة السود مهمّة»، حيث كان الشعار الأبرز، آنذاك، «ابقَ مستيقظاً» (Stay Woke). وفيما بعد، انسحبت هذه الكلمة على كلّ حركة تصنّف نفسها حاملة لـ«الأفكار التقدّمية التي تدعو إلى المساواة والعدالة الاجتماعية»، فتبنّتها بالتالي القوى الليبرالية ذات الأجندة التقدّمية، وأصبحت، في المقابل، محطّ هجوم القوى المحافظة، على غرار ترامب وديسانتيس الذي أعلن أكثر من مرّة أنه يسعى إلى القضاء على مظاهر تلك الثقافة في ولاية فلوريدا، وجعْل هذه الأخيرة نموذجاً يُقتدى به لباقي الولايات.
وفي إطار حملة حاكم فلوريدا الحالي على هذه المظاهر، فقد أشرف، عام 2022، على إقرار «قانون حقوق الوالدين في التعليم»، الذي يحظر مناقشة التوجّه الجنسي والهوية الجنسية مع الأطفال في المدارس العامة، من دون رضى ذويهم. وبطبيعة الحال، أثارت خطوته تلك انتقادات عدّة، صدر أحدها عن شركة «ديزني»، إحدى أكبر الشركات من حيث عدد الموظفين في الولاية، والتي أصدرت بياناً ينتقد التشريع، ليردّ ديسانتيس بتجريد الشركة من «وضع الحكم الذاتي» والإعفاءات الضريبية. كما اتُّهم بالعنصرية بعد منعه تدريس «مقرّر الدراسات الأفريقية - الأميركية» للثانويات العامة، تحت شعار عدم جعل أيّ تلميذ يشعر بـ«الاختلاف» بسبب عرقه أو لونه أو أصله، وذلك، على الأرجح، كي لا يتأثّر التلاميذ، بالحركات الاجتماعية الداعمة للقضايا المذكورة. وفي خطوة أخيرة قُرئت على أنها «انحياز» إلى اليمين، قبيل ترشّحه للانتخابات التمهيدية للرئاسة، وقّع ديسانتيس، في نيسان، قانوناً يحظر الإجهاض في الولاية بعد ستّة أسابيع من الحمل.

هو «ليس ترامب»
بالرغم من أن المراقبين يرون فيه المرشّح الجمهوري الأوفر حظّاً لمنافسة ترامب على خوض السباق الرئاسي لعام 2024، فقد بدا واضحاً أن انطلاقة ديسانتيس فقدت الكثير من زخمها أخيراً. وقد انعكس ذلك في عدد من استطلاعات الرأي؛ إذ بلغت نسبة الأصوات التي حصل عليها، في استطلاع أجرته «جامعة كوينيبياك»، بين 18 و22 أيار الماضي، 25 في المئة من بين المرشّحين الجمهوريين، وهي نسبة أقلّ من نصف تلك التي حصل عليها ترامب، والتي بلغت 56 في المئة تقريباً، في ما يمثّل تعمّقاً جديداً للفجوة بين الرجلين. مع ذلك، يبقى أداء ديسانتيس في الاستطلاعات أفضل بكثير من بقيّة الجمهوريين الذين ترشّحوا للانتخابات التمهيدية، والذين لا تزال أرقامهم متدنّية جداً.
اختار ديسانتيس، الشهر الماضي، طريقة «فريدة من نوعها» للإعلان عن ترشّحه، وصفتها بعض وسائل الإعلام بـ«الكارثية»؛ إذ قرّر الدخول في بثّ مباشر عبر «تويتر» مع الرئيس التنفيذي للشركة، إيلون ماسك، تخلّله «تشويش» وتأخير في سماع الصوت بالشكل والوقت المناسبَين. حتى إن البعض اعتبر هذه الانطلاقة إهداراً لفرصة الظهور في بثّ تلفزيوني مباشر، لمصلحة الظهور على خاصية «Twitter Spaces»، التي لا يعرف العديد من مستخدمي «تويتر»، أنفسهم، كيفية استخدامها. وبالرغم من ذلك، فقد رأى بعض المراقبين، بداية العام، في ديسانتيس «الحلّ لجميع مشاكل الحزب الجمهوري»، والمرشّح الذي قد يفتح أمام الجمهوريين «طريقاً لتجاوز الانقسامات والهزائم التي عاناها الحزب في السنوات الـ 15 الماضية». وكان مردّ هذا التصوّر أن ديسانتيس بدا لأوّل وهلة جامعاً لكلّ من القاعدة الشعبية للحزب والنخب التي يضمّها. وللحفاظ على صورته تلك، كمحافظ من نوع جديد، يُناسب، في آنٍ، المؤسسة الجمهورية وقاعدتها، كان يحتاج إلى التركيز على مجموعة جديدة من القضايا التي صنعت شعبيّته منذ البداية، وعلى رأسها الكفاح من أجل «الحرية»، ومعاداة حركة «الاستيقاظ» (Woke)، والتي لن تستفزّ أيّاً من الأطراف الجمهورية.
في الطريق إلى الانتخابات التمهيدية، اتّضح أن ديسانتيس سيضطرّ إلى أن يكون على يمين ترامب حتى


إلا أنّ ديسانتيس فشل، على الأرجح، في ذلك، بعدما «اضطرّ» إلى الغرق في القضايا التي لطالما أدّت إلى انقسام في صفوف الجمهوريين، من سياسيين ومؤيّدين، ومنها الإجهاض والموقف من روسيا وغيرها. ونظراً إلى أن ديسانتيس ليس المرشّح القادر على منح الجمهور «الترفيه» الذي كان يقدّمه ترامب له، أو المرشّح «الخطيب» على غرار رونالد ريغان، فهو فقد بالتالي «علامته الفارقة» التي تميّزه عن غيره، ما أدّى إلى انطفاء «الهالة» التي كانت تحيط به، بحسب صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية. فبعدما كان المرشّح الأنسب لدى الناخبين الجمهوريين المعتدلين، الذين لديهم مشاكل مع ترامب، وضعته نزعاته المحافظة، من وقت إلى آخر، في خلاف مستمرّ مع قاعدته الشعبية المعتدلة. ووفقاً للصحيفة الأميركية أيضاً، فقد فشل ديسانتيس في فرض توازن دقيق بين النزعات المختلفة في حزبه، ما دفعه إلى ارتكاب الكثير من الأخطاء، ومنعه من تشكيل تحالف قادر على منافسة ترامب. ومن الأمثلة على ذلك، موقفه «الناعم» نسبياً من روسيا، في ما يتعلّق بعمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا، والذي تجاهَل موقف النخبة والمتشدّدين والمحافظين الجدد الذين يتمثّل هدفهم النهائي في احتواء روسيا، في وقت من المفترض فيه أن يشكّل هؤلاء عنصراً أساسياً لنجاح أيّ تحالف «مناهض لترامب».
بمعنى آخر، من السهل أن يكون الشخص على «يمين» حركات «Woke»، من دون أن يستفزّ جميع مؤيديه، إلّا أنه في الطريق إلى الانتخابات التمهيدية، اتّضح أن ديسانتيس سيضطرّ إلى أن يكون على يمين ترامب حتى، ما هدّد، فعلياً، حظوظه، في مواجهة الشعبية والدعم اللذين يحظى بهما الرئيس الجمهوري السابق، وشخصيته «الاستثنائية» التي ناسبت المزاج الشعبي الأميركي المحافظ. بالإضافة إلى ذلك، وبعدما صنع العداء لمؤيّدي «Woke» شعبيّته، جنباً إلى جنب المعارك التي خاضها في سبيل «الحرية» وضدّ قيود فيروس «كورونا»، فقد غابت هذه القضايا، حتى الآن، عن خطاب ديسانتيس؛ إذ اقتصر حديثه على مسائل الإجهاض وروسيا وترامب، ما قوّض بشكل خطير حملته الانتخابية. وبحسب «نيويورك تايمز»، قد لا يكون هذا خطأ ديسانتيس بالكامل، بل المشكلة تكمن في أن الجائحة انتهت، وحركات «Woke» لم تعُد في ذروتها حالياً، فيما محاولة الرجل إعادة المعركة ضدّ «ديزني» إلى الواجهة، بعد أكثر من عامٍ على بدئها، هي خير دليل على أن حملته ضدّ مؤيّدي هذه الحركة تكافح «للحصول على الأوكسيجين» اللازم.
بيد أن كلّ ما تَقدّم لا يعني بالضرورة «انعدام» حظوظ ديسانتيس بالكامل. فبالرغم من انخفاض أرقام استطلاعات الرأي، وتردّد بعض المانحين المحتمَلين، وتساؤل النقّاد عن «مدى صحّة ترشحه للانتخابات أصلاً»، يرى بعض المراقبين أن من المبكر جدّاً الحكم على ديسانتيس بخسارة الانتخابات التمهيدية، نظراً إلى أن «الحظوظ قد تتغيّر بسرعة في مثل هذه الانتخابات»، ولا سيما أنه لا تزال هناك أشهر عدّة قبل انعقاد مجالس أيوا الانتخابية، ما يتيح له فرصاً كثيرة لتصحيح «المسار». ويذكّر هؤلاء بأن تاريخ الانتخابات التمهيدية مليء بالمرشّحين الذين جرى «شطبهم» من المنافسة بدايةً، قبل أن يعودوا إليها بقوة، على غرار ما حصل مع الرئيس الحالي، جو بايدن، أو الرئيس الأسبق، باراك أوباما، الذي أمضى، وقتذاك، ستّة أشهر «يعاني» خلف منافسته هيلاري كلينتون.