على رغم المشاكل الكثيرة التي أثارها الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في جوار بلاده، خلال تصدّره المشهد السياسي التركي منذ عام 2002، إلّا أنه يبدو أن ثمّة تقاطعاً بين الكثير من خصومه على أن بقاءه، بعد انكسار شوكته، هو أفضل من تغيير كبير جديد يضع تركيا على مسار مختلف عن ذلك الذي بدأت تستقرّ عليه هذه المنطقة، بعد انهزام كلّ المشاريع المتطرّفة والإقصائية. لا تحتمل منطقة الشرق الأوسط التي ثبت لدولها بالتجربة المريرة أن الاستقرار يفترض حدّاً أدنى من ترتيب العلاقات بينها بعيداً عن المشاريع الأميركية (المتراجعة بدورها بفضل عوامل عدّة من بينها قرار أميركي بتخفيف التورّط في المنطقة)، عودة تركيا إلى الانخراط في مشاريع «حلف شمال الأطلسي»، الذي يتفلّت إردوغان من الكثير من موجباته، وخاصة بعد تكشير الحلف عن أنيابه، كما هو بائن في حرب أوكرانيا. هذا هو الانطباع السائد حالياً، بعد أكثر من عشر سنوات عجاف من المغامرات الدامية والمدمّرة التي كادت تطيح بدول من الخارطة.ولم يكن بلا مغزى أن تودع الرياض 5 مليارات دولار في البنك المركزي التركي قبيل الانتخابات، مدعِّمة بذلك احتياط النقد الأجنبي لديه، وهو العنصر الأساسي في الحفاظ على قوة نسبية لليرة التركية التي مثّل تراجعها الكبير تهديداً محيقاً بالرئيس. وجاءت تلك البادرة السعودية في أعقاب أزمة في العلاقات نتجت من مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، عام 2018، في مقرّ القنصلية السعودية في إسطنبول، وأوصلت إردوغان إلى حدّ العمل للإطاحة بوليّ العهد السعودي، محمد بن سلمان. لكن بعد المصالحة التي سعى إليها الرئيس التركي نفسه، بكلّ ما أوتي من قوة، صار «إردوغان الجديد» أفضل من العودة إلى تركيا الأطلسية، بالنسبة إلى الرياض المبتعدة حالياً عن التورّط في المشاريع الأطلسية، من أوكرانيا إلى بحور الصين، ومن فلسطين إلى طهران.
لم يكن بلا مغزًى، كذلك، تسارع خطوات التطبيع بين تركيا وسوريا، التي تفيد معلومات بأنها تلقّت نصيحة روسية بعدم إغلاق الأبواب أمام أنقرة، بالنظر إلى الدور الذي يلعبه الرئيس التركي في الأزمة الأوكرانية، والذي لا تخفي روسيا ترحيبها به. هذا فضلاً عن أن فوز مرشّح المعارضة التركية، كمال كيليتشدار أوغلو، الذي يدعو منذ سنوات إلى الحوار مع الرئيس السوري، بشار الأسد، قد لا يؤدي إلى حلّ سريع للمشكلات في العلاقات بين البلدَين، ولا سيما أن منطلق المعارضة التركية في مسعاها للحوار، هو التوصّل إلى ترتيبات تريح تركيا من عبء النازحين السوريين وتتيح كبح القوى الكردية المعارضة في سوريا، في حين أن العودة إلى المشاريع الأطلسية قد تكون لها متطلّبات من أنقرة، غير مناسبة لدمشق، وقد تجعل بعض ما ينادي به كيليتشدار أوغلو، مجرّد وعود انتخابية تتلاشى عند وصوله إلى السلطة.
لم يكن بلا مغزى أن تودع الرياض 5 مليارات دولار في «المركزي» التركي قبيل الانتخابات


إلى ما تقدّم، يُضاف أن نتائج الجولة الأولى من الانتخابات، والتي أظهرت نزول شعبية الرئيس إلى ما دون الـ50% للمرّة الأولى منذ وصوله إلى السلطة، تجعله مجرّد سلطان آخر في منطقة مليئة بالسلاطين والملوك والأمراء والمشايخ الباحثين عبثاً عن إكسير شباب دائم لأنظمتهم التي لا تعيش إلا على الأموال - التي لا يملك منها إردوغان الكثير -، وعلى المؤامرات. أمّا قصر الألف غرفة الذي بناه لصالح مطامعه السلطانية في أنقرة، فقد ينضمّ إلى قصر «دولمة باتشيه» في إسطنبول، والذي كانت تدار منه السلطنة العثمانية بولاياتها الممتدّة، ويتحوّل إلى متحف، يحكي هذه المرّة عن غزوات لم تحقّق فتوحات، وعن فشل في إعادة بناء سلطنة، وليس عن أفولها. إردوغان وصل إلى خريفه السياسي كزعيم، حتى إذا نجح في الدورة الثانية، كما قد يُستشفّ من أرقام الجولة الأولى. ولن يكون له النفوذ ذاته في سنواته الخمس المقبلة. بل إن كثيرين في هذه المنطقة يعتبرون أنه قد يكون من المفيد أن يكون هو نفسه موجوداً للإشراف على تصفية المشاكل التي صنعها بيديه في سياسته التي كانت تقوم على «صفر مشاكل»، فإذا بها تتحوّل إلى مشاكل بالجملة مع الجوار، بدءاً من محاولة الهيمنة على المنطقة، وخاصة على الخليج، من خلال السعي إلى الإطاحة بأنظمته عبر المشروع «الإخواني» الذي كان مغضوضاً عنه من واشنطن، وصولاً إلى الانغماس الكلّي في الحرب السورية بهدف الإطاحة بنظامها أيضاً، وبين هذا وذاك، التورّط في ليبيا والسودان وغيرهما.
لم يكن إردوغان قوياً طوال وجوده في السلطة. فحتى في عزّ قوته، بعدما تجاوز في مراحل عديدة، صراعات مع الجيش، ومع القضاء، ومع الصحافة، وداخل تيّاره الإسلامي، وبالذات في «حزب العدالة والتنمية» الذي شهد انشقاقات كبيرة، منها انفصال عبدالله غول وأحمد داوود أوغلو، تعرّض لمحاولة انقلاب كادت تطيح به في تموز 2016، واتّهم الأميركيين بالتورّط فيها من خلال دعمهم حركة الإسلامي المنافس، فتح الله غولن، المقيم على الأراضي الأميركية. وكان بقاؤه في السلطة مرتبطاً دائماً بشعبيته التي مكّنته من تحقيق إنجازات داخلية كبيرة من مثل تحويل النظام إلى رئاسي (على طريق استعادة السلطنة)، والاستقرار الاقتصادي النسبي الذي عاد واهتزّ في السنوات الأخيرة. وسبب ذلك أن الدولة العميقة (الممثّلة بصورة أتاتورك المفروضة في كلّ الدوائر الرسمية التركية) بقيت أقوى منه، والدليل إدارة الانتخابات الأخيرة التي لم يُتح له - إذا ما استُثني تفوّق حملته الانتخابية - استغلال سلطته خلالها.
لكن لإردوغان، وسط كلّ ما تَقدّم، فضيلة كبيرة، هي أنه استطاع تقريب تركيا من جوارها العربي، فصارت تتحدّث معه بلغته، أي لغة المصالح المشتركة بتأثير غربي أقلّ.