لندن | يُجمع مراقبون على أن نجاح الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، في البقاء في السلطة لولاية ثالثة، يعني أن العلاقات بين تركيا والاتحاد الأوروبي ستظلّ رهينة الأجواء السلبية التي سادت خلال أكثر من عقد من حُكم الرجل، بل إن الانتخابات نفسها قد تكون مصدراً إضافياً للاحتكاك، بالنظر إلى ما يشوبها من شبهات مخالفات دستورية، ويحيط بها من شكوك بحدوث تزوير واسع النطاق، ويحفّ بها من احتمال ابتداع إردوغان أسباباً للبقاء في منصبه حتى لو خسر السباق. ولطالما اعتُبرت تركيا نفسها، منذ قيام الجمهورية في عام 1923، دولة غربية، وهي كانت عضواً مشاركاً في «المجموعة الأوروبية» (التي سبقت الاتحاد الأوروبي) منذ عام 1963، والتحقت بترتيبات الاتحاد الجمركي مع الاتحاد منذ عام 1995، واعتُبرت في عام 1997 مؤهَّلة لعضويته بعد عقد كامل من تقدّمها بطلب بذلك الخصوص في عام 1987، وتمّ قبولها رسمياً كمرشّح للعضوية الكاملة خلال «قمّة هلسنكي» عام 1999. لكن مفاوضات الانضمام التي بدأت في عام 2005، ظلّت متّسمة بالبطء؛ فمن أصل 35 فصلاً ضرورياً لاستكمال العملية، شُرع في العمل على 16 فصلاً فقط، ولدى توقّف المفاوضات لاحقاً - في عام 2018 -، لم يكن قد تمّ الانتهاء سوى من فصل واحد. وتعتقد جهات تركية أن هذا البطء في الإجراءات متعمَّد من قِبَل الأوروبيين الذين لا يرغب بعضهم في التحاق دولة كبيرة (85 مليون نسمة)، أغلبية سكّانها من المسلمين، بالاتحاد الذي تغلب عليه الثقافة المسيحية. وفي هذا السياق، نشرت صحيفة رئيسة في تركيا، قبل أيام، تقريراً ظَهر في مجلّة «دير شبيغل» الألمانية، عن وثائق من عهد المستشار الألماني هيلموت كول (بين عامَي 1982 و 1998)، رفعت برلين السرّية عنها أخيراً، تشير إلى أن ألمانيا دعمت علناً انضمام تركيا إلى التكتّل، بينما عملت سرّاً وراء الكواليس لمنع ذلك. ووفقاً للوثائق، فإن كول، الذي أبلغ القادة الأتراك بأن بلاده تدعم توجّههم لنيل العضوية، كان صارماً أثناء مداولاته مع زعماء أوروبيين في رفض عضوية تركيا لأنها تنتمي إلى «بُعد آخر»، و«لا يمكن تصوّرها». كما أنه سخر من أعضاء حزبه الذين ناقشوا الفكرة، بقوله: «لم أكن أعرف من حصص الجغرافيا في المدرسة أن الأناضول جزء من أوروبا».
على أن بروكسل تربط التعثّر في العلاقات مع أنقرة، إلى حدّ بعيد، بعهد إردوغان. إذ تحفّظت العديد من الدول الأعضاء، بما فيها فرنسا والنمسا، على استمرار مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد بسبب تعنّت الأخيرة في ما يتعلّق بخطط إنهاء تقسيم قبرص. وتلاحقت الخلافات والتحفّظات بين الجانبَين على خلفية التراجع المستمرّ للحريات الديموقراطية في تركيا، والقصور في سيادة القانون، لا سيّما بعد محاولة الانقلاب المزعومة الفاشلة في عام 2016، وكذلك استخدام إردوغان المسيّس للاجئين ضدّ دول الاتحاد، وأيضاً «الفيتو» الأخير على انضمام السويد (وفنلندا) إلى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو)، وموقف أنقرة الملتبس بشأن العلاقات مع روسيا بعد حرب أوكرانيا. ومن غير المرجّح أن تتمكّن تركيا (في حال بقيت تحت حُكم «العدالة والتنمية»)، نتيجة تكثيف إردوغان الصلاحيات في يد الرئيس - وفق تعديل الدستور في عام 2017 -، من مطابقة المعايير (الديموقراطية) الأوروبية، حتى لو استؤنفت مفاوضات الانضمام في وقت قريب. وكان صوّت البرلمان الأوروبي، في عام 2019، على تعليق مفاوضات العضوية بصفة تامّة، فيما لا يُتوقَّع الآن أن تبذل بروكسل أيّ جهود في هذا الاتّجاه ولو حتى لتحديث الاتفاقات الجمركية القائمة، ما يعني أنه سيستمرّ إغلاق الباب أمام العديد من مجالات التعاون الممكنة الأخرى، ليقتصر التنسيق على مستوى الحدّ الأدنى لإبقاء أربعة ملايين لاجئ سوري في تركيا مقابل تمويل تكاليفهم.
وتمثّل مسألة قبرص - شكليّاً على الأقلّ - عقدة رئيسة أمام فرص تركيا للالتحاق بالاتحاد الأوروبي في وقت ما؛ إذ يدفع نظام إردوغان تجاه تبنّي نموذج الدولتَين في قبرص – الدولة العضو في الاتحاد -، مخالفاً بذلك الحلّ المدعوم من أوروبا والأمم المتحدة، والمتمثّل في إقامة دولة فيدرالية. كذلك، تريد أنقرة فرض منطقة اقتصادية واسعة لها في شرق المتوسّط، وهي أرسلت لدعم مطالبها سفناً عسكرية إلى جوار قبرص وعدد من الجزر اليونانية، فيما تحتفظ بجيش من 30 ألف جندي يحتلّون شمال قبرص، ما اعتبره الأوروبيون سلوكاً عدائياً تجاه دول أعضاء في التكتّل، وتهديداً للأمن في الإقليم.
وترى المعارضة التركية، في تلاشي آمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي مع وجود الرئيس الحالي في السلطة، فرصة ثمينة لتحقيق اختراق انتخابي، عبر تقديم نفسها إلى الأتراك بوصفها قادرة على إعادة إطلاق «حلم» نقل تركيا إلى أوروبا. وفي كانون الثاني الماضي، أصدر هذا التحالف مذكّرة نوايا أكد فيها عزمه، حال وصوله إلى السلطة، على تقليل مساحات الخلاف مع الشركاء الأوروبيين، وتجديد مفاوضات الانضمام إلى الاتحاد. كما تعهّد أونال تشيفيكوز، كبير مستشاري زعيم «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، بتنفيذ قرارات «المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان»، بإطلاق سراح اثنين من أشهر معارضي إردوغان الموجودين حالياً في السجن: الزعيم المشارك لـ«حزب الشعوب الديمقراطي» المؤيّد للأكراد صلاح الدين دميرطاش، والمدافع عن حقوق الإنسان عثمان كافالا، وبإصلاح سجلّ تركيا القاتم في مجال حقوق الإنسان.
ويَفترض بعض الخبراء أن فوز تحالف المعارضة سينعكس بالضرورة تغييرات جوهرية في سياسة تركيا الداخلية والخارجية. ومن ذلك تغيير الدستور للعودة إلى نظام برلماني، وتقليل الصلاحيات المنوطة بالرئيس، واستعادة استقلال القضاء والحرّيات الديموقراطية، وتحسين العلاقات مع بروكسل وواشنطن، وإعطاء الأولوية للديبلوماسية في حلّ النزاعات القائمة مع اليونان وقبرص. ومن شأن تلك التوجّهات أن توفّر المناخ المناسب لإخراج العلاقات بين الاتحاد الأوروبي وتركيا من الثلاجة، ولو أنه من غير الواقعي الافتراض أن كلّ نقاط الخلاف ستُحسم بصفة فورية. على أنه قد يكون للأوروبيين دور كبير في ضمان استقرار حكومة المعارضة من خلال مساعدتها على التغلّب على الصعوبات الاقتصادية والتضخّم المفرط الذي تعانيه الجمهورية. وعلى المدى المتوسّط، يمكن إطلاق عملية التفاوض حول تحديث اتفاقيات الاتحاد الجمركي المخطَّط لها منذ فترة طويلة، كمدخل منطقي لاستئناف مفاوضات الانضمام بمختلف فصولها، بما يتيح لتركيا حينئذ الاستفادة من الصيغة التي قد تتبنّاها بروكسل للتعامل مع طلب الانضمام الأوكراني، والتي تقتضي قدراً أكبر من التكامل بين دول التكتّل والدول المرشّحة، قبل حصول الأخيرة على العضوية الدائمة بالفعل.
وأيّاً يكن، فإن تركيا، وبغضّ النظر عن هوية الفائز في الانتخابات، ستظلّ جارة ذات أهمّية استثنائية للاتحاد الأوروبي، تجمعها به تحدّيات مشتركة يتعيّن عليهما العمل سويّاً لمعالجتها، ولو من خلال عضوية أنقرة في حلف «الناتو»، الذي يستوجب تنسيقاً عالي المستوى بين أعضائه، على الأقلّ في المسائل الأمنية والعسكرية. لكن استمرار إردوغان في السلطة سيعني أن مفاوضات العضوية في الاتحاد لن تتجدّد في المدى المنظور، ما لم يفرض ذلك الأميركيون على الأوروبيين خوفاً من اندفاع تركيا أكثر بعيداً عن الغرب نحو محور موسكو - بكين، وهو سيناريو لا يحبّذه أحد لا في واشنطن ولا في بروكسل.