خيطٌ رفيع بين الإلهام والإحباط، هو ما قد يختصر حصيلة عقدَين قضاهما الرئيس رجب طيب إردوغان في سدّة الحكم في تركيا. الطفل الفقير، الذي اضطرّته ظروف العيش للعمل كبائع للخبز، والشاب المتديّن الهاوي لكرة القدم، والحائز شهادة جامعية من كلّية الاقتصاد والعلوم التجارية في جامعة مرمرة، حدَت به طموحاته السياسية لاحقاً إلى مقارعة المؤسّسة العسكرية التركية، أحد أعتى تجلّيات الدولة العميقة «العلمانية» المعادية للتيّارات الإسلامية في بلاده. مقارعةُ انتهت ببلوغه رأس السلطة عبر تولّيه: أولاً رئاسة الحكومة، ومن ثمّ رئاسة الجمهورية خلال رحلة صعود استغرقت أحد عشر عاماً، وصولاً إلى تثبيت سلطانه في وجه تلك المؤسّسة، وتمكّنه من ترويضها في نهاية المطاف، وتحديداً من خلال محطّتَين أساسيتَين بين عام 2008 عقب إحباط ما عُرِف بـ«مخطّط إرغينيكون»، وعام 2016 بعد نجاته من انقلاب صيف ذلك العام. جاء دخول إردوغان، المولود لأُسرة متديّنة فقيرة في أحد أحياء إسطنبول، إلى عالم السياسة من بوّابة «حزب الرفاه»، بدافع تأثّره الشديد بنجم الدين أربكان، المعروف بأنه «أبو الإسلام السياسي في تركيا» إبّان حقبة الثمانينيات ليترفّع بالمسؤوليات تباعاً، إلى أن أصبح مسؤولاً للحزب في مسقط رأسه، إسطنبول، عام 1985، ومن ثمّ انتخابه رئيساً لبلديتها، عام 1994. ومع إسقاط حكومة أربكان بضغط من الجيش، بعد فترة قصيرة من تولّيها الحكم، وتحديداً عام 1997، وما تعرّضت له قيادات «حزب الرفاه»، ومن ضمنهم إردوغان، من ملاحقة واضطهاد، قادا إلى إقصاء الأخير عن الحياة السياسية وقتذاك، وجد الرَجل ضالّته لاستئناف نشاطه السياسي في حُكم صادر عن المحكمة الدستورية، ليؤسّس، في صيف عام 2001، حزباً جديداً، هو «حزب العدالة والتنمية».
لاحقاً، وعبر سلسلة خطوات من قَبيل نقل مقرّ الرئاسة التركية من قصر «تشانقايا»، ذي المدلولات الرمزية للتيّار القومي والمتّصل بإرث الحقبة الأتاتوركية، إلى مجمع «بيش تبه» الرئاسي في أنقرة، عام 2014؛ والسعي إلى إزالة «حديقة تقسيم» التي ترمز إلى نبْذ الماضي العثماني كوْنها مُقامة على أنقاض ثُكنة عسكرية عثمانية، وذلك وفق مشروع يعود إلى عام 2011، بدا إردوغان، في خضمّ محاولاته تحطيم أسطورة «الرجل الصنم» وباني تركيا الحديثة، كَمَن يعمل على إعادة تعريف هوية الدولة التركية برمّتها على أسس بعْث رميم السلطنة العثمانية البائدة.

العُهدة الحكومية: الاقتصاد مفتاح الحكم
ترَقّي رئيس «حزب العدالة والتنمية» على هرم السلطة، تَرافق مع أزمة اقتصادية حادّة كانت تعانيها تركيا الواقعة تحت ضغوط «صندوق النقد الدولي»، بعدما قارب حجم ديون البلاد لـ«الصندوق» حوالى 16 مليار دولار. وعلى مدى سنوات ترؤّسه الحكومة بدءاً من عام 2002، شكّل العامل الاقتصادي رافعة أساسية لأجندة إردوغان في الشارع التركي، بخاصّة لدى أبناء الطبقة الوسطى، والبيئات الشعبية المحافِظة والمهمّشة. ذلك أن تبنّي حكومته الأولى ما عُرِف بـ«خطّة التحرّك العاجل» لسنة واحدة، والتي شملت حينها مراجعة اتفاقية الاقتراض المُبرمة مع «النقد الدولي»، وتطوير البنية التحتية وقطاع السياحة، إضافة إلى إجراء إصلاحات ضريبية، وبرنامج مساعدات وقروض تفضيلية عاجلة للقطاع الخاص، لعب دوراً هامّاً في لجم ارتفاع معدّل التضخّم من 32% إلى 9% خلال عامين، وتسجيل نموّ اقتصادي بنسبة 9.4%، وهي نسبة قياسية لم يعهدها الاقتصاد التركي على مدى عقود. أيضاً، شرعت حكومته، في عام 2004، بتنفيذ خطّة اقتصادية أخرى لتنمية القدرات الصناعية للبلاد، ذات الاقتصاد الزراعي تاريخيّاً، والسير في إصلاحات نقد ية أسهمت في تعزيز قيمة الليرة التركية. وخلال عقد من عُهدة إردوغان الحكومية، تجاوزت قيمة الناتج المحلّي الإجمالي السنوي لتركيا عتبة الـ800 مليار دولار، بعدما كان بحدود 311 مليار دولار، فيما ارتفعت احتياطات البنك المركزي من 26.5 مليار دولار إلى 135.5 مليار دولار، وهي أرقام جعلت الاقتصاد التركي يتربّع على المرتبة الحادية عشرة على مستوى العالم.
وفي موازاة نجاحاته الاقتصادية، وشدّه العصب القومي في وجه المكوّن الكردي تارةً، عبر ضرْب الفصائل المسلّحة الكردية في الداخل والخارج، وذلك المذهبي في وجه المكوّن العلوي، عبر شنّ هجمات إعلامية ضدّ قيادات في المعارضة، كالمرشّح الرئاسي المنافس له كمال كيليتشدار أوغلو، تارةً أخرى، خاض إردوغان، وهو الخطيب المفوَّه، «حرباً ثقافية» إسلاميةَ الطابع ضدّ أركان الدولة العميقة التركية، ممّن يصفهم بـ«الملحدين» و«المنحرفين»، أُقحم فيها موضوع السماح بالحِجاب في المدارس والجامعات، والذي استخدمه الرئيس التركي بنجاح لدعم طموحاته لتدجين المؤسّسة العسكرية وكفّ يدها عن التأثير في المشهد السياسي.

الولايتان الرئاسيتان: حُكم الرجل الواحد
الصورة الأخرى لعصر إردوغان، وتحديداً منذ تولّيه رئاسة الجمهورية عام 2014، جاءت سلبية في الغالب. ومقارنةً بالإنجازات السياسية والاقتصادية التي لا يمكن إنكارها خلال السنوات العشر الأولى من حُكمه، حين كان لا يزال رئيساً للوزراء، فإن السنوات العشر اللاحقة لـ«الزعيم الكاريزماتي» اتّخذت منحًى عكسيّاً. على هذا النحو، دار الزمان السياسي التركي، ومعه عَبَرَ الواقع الاقتصادي في خضمّ «الدورة الرأسمالية»، من عهد الانتعاش إلى عهد الركود، لتعود موجات التضخّم المرتفع، وتتجاوز، خلال العام الجاري، ما نسبته الـ50% على أساس سنوي، بعدما لامست في وقت سابق عتبة الـ90%. وطيلة ولايتَين رئاسيتَين، أعقبتا تهميش دور البرلمان، بعد تحويل النظام السياسي من برلماني إلى رئاسي، أصبح الرئيس الذي صعد على أكتاف «مظلوميّة» التيّار الإسلامي في البلاد، أَشبه بـ«سلطان مستبدّ» على رأس نظام قمعي زبائني، قوامه جيش من العناصر الموالين له ولأقاربه. وفي هذا السياق، يُنظر إلى قرار تولّي صهر إردوغان، برات آلبيراق، لوزارة المالية عام 2018، وإدارته السيئة للملفَّين النقدي والمالي (قبل استبداله لاحقاً)، بوصفه مثالاً صارخاً على تقويض رئيس الجمهورية للمنطق المؤسّساتي، وتفضيله عنصر الولاء والإخلاص على حساب عنصر الكفاءة في التعيينات الحكومية.
لا يختلف اثنان على أن إردوغان يتقن جيّداً فنّ اللعب على حبال التناقضات في السياسة الدولية


حُكم «العدالة والتنمية» الذي يقمع معارضيه ويسجنهم بتهم واهية، لم يوفّر أيضاً نهج تطويع القضاء لتصفية حسابات سياسية مع خصومه، وعلى رأسهم رئيس بلدية مدينة إسطنبول أكرم إمام أوغلو، وزعيم «حزب الشعوب الديمقراطي» صلاح الدين ديمرطاش. ومنذ إقرار «قانون إهانة الرئيس» عام 2014، لإسكات كلّ أشكال النقد ضدّ القيادة التركية، والذي يوسّع من سلطات الحكومة الرقابية على المحتوى الإعلامي ووسائل التواصل الاجتماعي، ويعاقب بالسجن لفترة تصل إلى 4 سنوات، فقد خضع قرابة 200 ألف معارض تركي للتحقيق لدى الأجهزة الأمنية. وبحسب «مؤشّر حرية الصحافة» لعام 2021، الذي تعدّه منظّمة «مراسلون بلا حدود»، احتلّت تركيا المركز الـ153. كما تشير تقارير غربية إلى أن وسائل الإعلام المستقلّة والمعارضة لا تتعدّى نسبتها الـ10% فقط من إجمالي وسائل الإعلام التركية.
ومع ذلك، تمكّن إردوغان من تعويض بعض إخفاقاته الداخلية، عبر اتّباع سياسة خارجية نشطة في الشرق الأوسط، اتّخذت في كثير من الأحيان طابعاً تدخليّاً توسّعياً، على نسق «الكولونيالية المذهبية»، من بوّابة الرهان على «التيّارات الإخوانية» كما في الحالة الليبية، والفصائل «الجهادية» كما في الحالة السورية، خلافاً لنهج الانكفاء عن لعب أدوار مشابهة لعقود خلت، وسعياً لدغدغة مشاعر مواطنيه بخطاب سياسي وإعلامي يَستحضر «أمجاد الماضي العثماني» في المنطقة. وفي ما يبدو استنساخاً مقلوباً لمبدأ أتاتورك في السياسة الخارجية وفق معادلة «سلام في الداخل، سلام في الخارج»، يعكس نهج إردوغان، عقب أحداث «الربيع العربي»، معادلة تقوم على «القمع للأتراك»، و«الدمقرطة للعرب».

تحدّيات في الطريق
لم تخلُ هذه المسيرة السياسية الحافلة من تحدّيات، بعضها تجلّى في شكل انشقاقات داخل «العدالة والتنمية»، وبعضها الآخر في تظاهرات شعبية ضدّ سياسات إردوغان، على غرار تلك التي خرجت في ميدان «تاندوغان» عام 2007، وبعضها الثالث في سقوط الكثير من حلفاء إردوغان - وعلى رأسهم الرئيس الأسبق عبدالله غُول، ورئيس الحكومة السابق أحمد داود أوغلو - على الطريق، إضافة إلى تحوّل علاقته بالداعية فتح الله غولين من تحالف إلى عداء، برّر على أساسه العديد من إجراءاته القمعية ومخطّطاته الانقلابية على «الإرث الأتاتوركي» داخل المجتمع والدولة على السواء، وتحديداً داخل المؤسّسة العسكرية، المنوط بها دور سياسي وعسكري وإيديولوجي عنوانه الحفاظ على الثوابت العلمانية التي أرساها مؤسّس الدولة التركية الحديثة، مصطفى كمال.
وفي العموم، تشكّل «التجربة الإردوغانية» في الحُكم حلقةً من مسار تاريخي اعتراضي ممتدّ، ذي نَفَس إسلامي، عايشته تركيا في وجه «مشروع أتاتورك»، ذي الطابع العلماني على الطراز الغربي، تحت قيادة «حزب الشعب الجمهوري». وهو مسار بدأ من ثورة الشيخ سعيد بيران في وجه ذلك المشروع في عشرينيات القرن الماضي، مروراً بالمشروع الإسلامي التجديدي الذي تبنّاه الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي عبر ما سُمّي بـ«حركة النور» (حركة النورسية)، وصولاً إلى صعود شخصيات ذات ميول إسلامية إلى المسرح السياسي كزعيم «الحزب الديموقراطي» عدنان مندريس، الذي أصبح رئيساً للوزراء مطلع الخمسينيات، وزعيم «حزب الرفاه» نجم الدين أربكان، لتَبرز الثقافة الإسلامية كواقع متجذّر في المجتمع التركي.

السياسة الخارجية
شكّل عهد زعيم «العدالة والتنمية» نقطة تحوّل بالغة الأهمية في التاريخ الحديث لتركيا، انعكست بشكلها الأوضح في علاقة أنقرة مع الدول الغربية، وفي طليعتها الولايات المتحدة، بسبب تباينات في الرؤى حول ملفّات السياسة الخارجية، كحرب العراق عام 2003. وفي خلفيّة هذه الصورة، تبرز مهارة إردوغان في اللعب على حبال التناقضات في السياسة الدولية، فهو رئيس دولة تملك ثاني أكبر جيش في «الناتو»، بينما لا يتورّع عن مهاجمة السياسات الأميركية، بخاصّة حين تعارِض نهجه في الحُكم داخلياً وخارجياً. كما أنه يرأس دولة مرتبطة تاريخياً بعلاقات وطيدة مع إسرائيل، على مختلف الصعد السياسية والعسكرية والاقتصادية، في وقت يتبنّى فيه خطاباً إعلامياً تجاه دولة الاحتلال، يجعله أقرب إلى «محور المقاومة»، فضلاً عن تبنّيه منطق «التسوية» مع تل أبيب، الذي يتماهى فيه بشكل أو بآخر مع ما كان يُعرف يوماً بـ«محور الاعتدال». كذلك، هو نفسه مَن كان يوماً ما صديقاً مقرّباً من الأسد، قبل أن تقوده أجندته «الإخوانية» إلى أن يصبح أشرس أعدائه؛ وهو عينه أيضاً من ذهب بعيداً في تعزيز أواصر علاقات بلاده مع روسيا، أكثر من أيّ رئيس تركي آخر منذ الحرب الباردة، من دون أن يمنعه هذا من إعلاء سقف مواقفه في السياسة الخارجية ضدّ موسكو، في أزمات دولية، كأزمتَي القرم، وليبيا، فضلاً عن مدّ أوكرانيا بالسلاح. زد على ما تَقدّم، أنه كثيراً ما يحلو لزعيم «العدالة والتنمية»، المولع بالدراما التاريخية والسياسية، والتي تشهد عليها رعايته أحد أضخم إنتاجات الدراما التركية، والمتمثّل بمسلسل «قيامة أرطغرل» الذي يتناول سيرة حياة والد مؤسّس الدولة العثمانية، أن يُنصّب نفسه بطلاً في معارك «مكافحة الإرهاب» حين يخلع عليه أسماء «كردية»، فيما يكون التواطؤ سمةً فارقة في نهجه حين يتعلّق الأمر بإرهاب يحمل مسمّيات «قاعدية» و«داعشية».
مريدو الرجل ومناصروه يضعون ذلك المزيج الغريب في خانة «البراغماتية» التي تمليها قواعد اللعبة السياسية، بينما تتبنّى فئة لا يُستهان بها من خصومه ومعارضيه رؤية تستبطن قدْراً من التحامل المبالَغ فيه على الخلفية الإيديولوجية ذات المرجعية الإسلامية للرجل، بما يشمل إلصاق تهم الانتهازية المجرّدة به تارةً، والعمالة الصريحة للخارج تارةً أخرى. ولعلّ هذا الاستقطاب الحادّ بين وجهتَي النظر المشار إليهما، لعب دوره في تكريس إردوغان «زعيماً للعالم الإسلامي» في نظر البعض، و«خادماً مطيعاً» لواشنطن وتل أبيب بالنسبة إلى البعض الآخر.