لندن | في خطاب ألقاه أمام طَلبة جامعة أولستر في بلفاست، عاصمة إقليم إيرلندا الشمالية، لمناسبة الذكرى الـ 25 لتوقيع اتفاق «الجمعة العظيمة»، عام 1998، حثّ الرئيس الأميركي، جو بايدن، قادةَ الأحزاب السياسية الخمسة الرئيسة في الإقليم، على إعادة تفعيل حكومة تقاسم السلطة بين الكاثوليك والبروتستانت، والتي تعاني موتاً سريريّاً منذ عام 2017، بعد تعذُّر عقد جلسات البرلمان المحلّي. وقال بايدن - الذي له جذور عائلية إيرلندية -، مخاطباً القادة المحلّيين: «بصفتي صديقاً، آمل ألّا يكون من الغرور القول إن المؤسّسات الديموقراطية التي أنشأها اتفاق الجمعة العظيمة لا تزال ضروريّة بشكل حاسم لمستقبل إيرلندا الشمالية». والولايات المتحدة بمثابة الأب الروحي لهذا الاتفاق الذي وقّعه، بالإضافة إلى حكومة لندن، الكاثوليك القوميون الذين يريدون إنهاء الوجود البريطاني في منطقتهم وإعادة توحيد الجزيرة تحت اسم جمهورية إيرلندا؛ والبروتستانت الذين ينحدرون من أصول إنكليزيّة ويريدون البقاء كجزء من المملكة المتحدة. وتعهّد الرئيس الأميركي بأن تكون بلاده شريكة في ضمان أمن السلام في الإقليم، الذي تعرّض للاهتزاز في شباط الماضي، بعدما أُطلقت النار عدّة مرات على محقّق في الشرطة كان خارج أوقات الخدمة، فيما يعتقد بأنه هجوم مرتبط بالعداء التاريخي الدموي بين مكوّنَي سكان الإقليم. وقد تحدّث بايدن عن جون كالدويل، الشرطي الذي نجا من الموت، في إطار خطابه، وناشد جميع الأطراف ترك العنف وراءهم.وعلى رغم أن منسوب القلاقل الأمنية انخفض بشكل حاسم منذ اتفاق «الجمعة العظيمة»، إلّا أن مجموعات صغيرة تعارض الاتفاق ما زالت تتورّط في اشتباكات متفرّقة بين الحين والآخر. وقد زادت وكالة الاستخبارات البريطانية مستوى التهديد في الإقليم ممّا تسمّيه «الإرهاب المحلي» إلى «شديد الاحتمال» خلال معظم الوقت، منذ عام 2010. وقاتل القوميّون الإيرلنديون القوات البريطانية وميليشيات بروتستانتية طوال أكثر من 30 عاماً، في حملة من أجل الاستقلال. ومع أن حزب «شين فين» (الجمهوري الإيرلندي) جنح إلى العمل السلمي وخاض الانتخابات الأخيرة، محقّقاً نتائج لافتة، إلّا أنه لا يزال على عزمه على تحقيق الوحدة مع الجمهورية في دبلن، وإنهاء الوجود البريطاني المستمر في الجزيرة منذ عدة مئات من السنين، وإنْ عبر الوسائل السلمية. وشهد الإقليم إجراءات أمنية مشدّدة ترافقت مع زيارة الرئيس الأميركي، وسط تجدُّد المخاوف على إثر اكتشاف أربع عبوات ناسفة صغيرة، في لندنديري، وهي مدينة تبعد 110 كيلومترات عن الموقع الذي كان فيه بايدن. واتهمت الشرطة المحلّية مَن سمّتهم «مثيري الشغب» القوميين الإيرلنديين الذين هاجموا رجال شرطة أيضاً يوم الاثنين عشيّة الزيارة الرئاسية، بمحاولة إثارة المتاعب.
وكان «الحزب الديموقراطي الوحدوي» (الذي يمثّل البروتستانت) قد انسحب من الحكومة المشتركة العام الماضي، احتجاجاً على قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، والترتيبات الخاصّة في شأن الحدود بين الإقليم وجمهورية إيرلندا. ولم يفلح رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، في إقناع حلفاء لندن التاريخيين في الإقليم، بالعودة إلى الحكومة المحلّية بعد توقيعه قبل شهرين اتفاق إطار جديداً لتنظيم مسألة الحدود الإيرلندية مع الاتحاد الأوروبي، بدفعٍ أميركي. ويبدو أن الأميركيين ضغطوا على لندن وبروكسل وقتها، للتفاهم وتجنّب فتْح حرب تجاريّة بين بريطانيا والاتحاد، في وقت تحاول فيه واشنطن جاهدة الحفاظ على وحدة تحالف غربي عريض تقوده ضدّ روسيا. وصوّت ثلثا سكان الإقليم في استفتاء «بريكست» لمصلحة البقاء ضمن النادي الأوروبي، وذلك في عرض نادر لتوحُّد مواقف السكان المحليين. وبالنظر إلى عضوية كل من المملكة المتحدة وجمهورية إيرلندا في الاتحاد الأوروبي، فقد أُزيلت نقاط الحدود البريّة بين جانبَي الجزيرة. لكن خروج بريطانيا تسبّب بتعقيدات حول انتقال الأشخاص والبضائع مع دول الاتحاد، ما انعكس تجاذبات في شأن إجراءات النقل البريّ بين بلفاست ودبلن.
المصادر المحلّية في إقليم إيرلندا الشمالية قالت إن الاحتفاء بزيارة الرئيس بايدن لن ينعكس بالضرورة زحزحة فورية للأوضاع السياسية في بلفاست. ويكاد جميع الأطراف يتّفقون على أن الصيغة الحالية لتقاسم السلطة قد انتهت ويستحيل إحياؤها. وشكّك أعضاء في «الديموقراطي الوحدوي» علناً في قيمة الزيارة - وإنْ بعبارات ملطّفة -، وعبّروا عن الخشية من أن واشنطن قد تلجأ إلى إغراق الإقليم بالاستثمارات للإبقاء على الهدوء الأمني، ولا سيما بعد تعيين جوزف كينيدي الثالث، سليل العائلة السياسية الأميركية الإيرلندية الشهيرة، مبعوثاً خاصاً للولايات المتحدة إلى إيرلندا الشمالية للشؤون الاقتصادية في كانون الأول الماضي. ويرى كثيرون هنا أن بايدن أقرب عاطفيّاً وسياسيّاً إلى دبلن منه إلى لندن، وهو انتقد بالفعل قرار الأخيرة في شأن «بريكست»، ما يجعل الجزء البروتستانتي من السكان أقلّ تفاؤلاً بتأثير ايجابي للزيارة.
ويضغط «الديموقراطيون الوحدويون» من أجل إدخال مزيد من التغييرات على تفاهمات لندن - بروكسل في شأن الحدود في إيرلندا، لكن الحكومة البريطانية تقول إن ذلك غير ممكن عمليّاً الآن. وسيشهد الإقليم، في أجواء الشلل السياسي السائدة، انتخابات محلّية الشهر المقبل. لذلك، فإن أيّ ترتيبات جديدة محتملة ستنتظر على الأقل إلى الخريف المقبل.
الاحتفاء بزيارة الرئيس بايدن لن ينعكس بالضرورة زحزحة فورية للأوضاع السياسية في بلفاست


زيارة بايدن إلى بلفاست، وهي الأولى لرئيس أميركي منذ عشر سنوات، كانت مختصرة ولم تتجاوز نصف اليوم، وشملت لقاء شكليّاً مع رئيس الوزراء البريطاني، انتقل بعدها سريعاً إلى الجمهورية في الجنوب، في زيارة تضمّنت برنامج جولات شخصية واسعاً، واحتفالات مع أقارب بعيدين للرئيس الذي يُعدّ الجيل الخامس لمهاجرين إيرلنديين إلى الولايات المتحدة، إضافة إلى لقاءات رسميّة مع الرئيس الإيرلندي مايكل دي هيغينز، ورئيس الوزراء ليو فارادكار، وكبار المسؤولين في الحكومة الإيرلندية، إلى جانب خطاب سيلقيه في البرلمان، وآخر عام في مقاطعة مايو الغربية، حيث نشأ جده الأكبر المدعو إدوارد بلويت. ويقول حوالي 30 مليون أميركي إنهم ينحدرون من أصول إيرلندية، عندما هاجر أجدادهم بكثافة من بلادهم إثر مجاعة واسعة في منتصف القرن التاسع عشر تسبّب بها البريطانيون الذين كانوا يستعمرون كل الجزيرة.
وبعكس الأجواء المشحونة في بلفاست، فإن استقبال الإيرلنديين للرئيس الأميركي في دبلن، كان أكثر دفئاً، وتحدّث كثيرون في الشارع عن استقبال زعيم إيرلندي فخور بتراث بلاده على أرض وطنه الأصلي، على رغم أن مجموعة من القوميين اليساريين جمعت عرائض تدين ما سمّته «زيارة زعيم الإمبريالية العالمية» إلى بلادهم، ووقّعوا بشعارات مناهضة للولايات المتحدة على علم أميركي مقلوب.