لا تبدو الأوضاع في بيرو متّجهة نحو التهدئة، في ظلّ استمرار الاحتجاجات المطالِبة بالعودة بالبلاد إلى ما قبل إطاحة بيدرو كاستيو، وتسلُّم نائبته، دينا بولورات، مهامّ الرئاسة. وإذا كانت هذه الأخيرة ترفض، حتى الآن، التنحّي، وإعادة تنصيب كاستيو، فهي وعدت بـ«حثّ» الكونغرس على تقديم موعد الانتخابات العامة إلى 2024، بدلاً من 2026. لكن ذلك لن يكون، بحال من الأحوال، كافياً لتستعيد البلاد بعضاً من هدوئها؛ فهذا يتطلّب، وفق خبراء، التخلّي عن دستور العهد الديكتاتوري، وسحْب بعض صلاحيات الكونغرس المخوّل عزْل الرؤساء لأيّ سبب كان. ويعني ما تقدّم، أنه حتى لو استقالت بولورات والكونغرس غداً، فإن شيئاً لن يتغيّر لناحية الأحوال السياسية المتردّية
تتسارع الأحداث في بيرو منذ قرار الكونغرس إطاحة الرئيس اليساري، بيدرو كاستيو، من منصبه الشهر الماضي، وتعيين نائبته دينا بولورات خلفاً له. قرارٌ لم تهدأ التظاهرات على إثره، إذ عمّت جميع أنحاء البلاد، لا سيما مناطق السكّان الأصليين (وكاستيو واحد منهم)، الذين أغلقوا الطُرق السريعة الرئيسة، وحاصروا المطارات، ما دفع الحكومة الجديدة، التي لا تتجاوز شعبيّتها وفق أحدث الاستطلاعات الـ20%، إلى إعلان حالة الطوارئ في البلاد. وتَرافق ذلك مع إطلاق سلطات بولورات، التي تبنّت في خطاب تنصيبها شعار «التماسك الديموقراطي»، موجة عنف بحقّ المتظاهرين، أعادت إلى الأذهان حقبة الديكتاتور البيروفي، ألبرتو فوجيموري، وخلّفت، حتى الآن، أكثر من 54 قتيلاً و800 جريح. وعلى هذه الخلفية، أعلنت النيابة العامة فتْح تحقيق أوّلي في حقّ بولورات وعدد من وزراء حكومتها بتهمة ارتكاب «إبادة جماعية»، فيما استمرّ البيروفيين في احتجاجاتهم المطالِبة بتنحّي الرئيسة اليمينية، وإجراء انتخابات عامّة على الفور، وحلّ الكونغرس و«الجمعية التأسيسية»، إضافة إلى إطلاق سراح كاستيو وإعادته إلى منصبه. ومن الولايات الجنوبية، وصل محتجّون، الأسبوع الماضي، إلى العاصمة ليما، تلبيةً لدعوة «الاتّحاد العام للعمّال»، للتظاهر تحت عنوان «الاستيلاء على ليما»، إلّا أن الرئيسة كرّرت موقفها اعتبار الاحتجاجات غير سلميّة، والهدف من ورائها هو «الاستيلاء على السلطة».
على أن هذه الاحتجاجات «باتت تتخطّى الأوضاع السياسية أو فكرة مَن الذي يحكُم». إذ بحسب موقع «فويس أوف أميركا» الإسباني، فإن ما يجري يعبّر عن «إحباط عميق من الديموقراطية الفتيّة»، التي قامت بعد سقوط فوجيموري عام 2000، والتي يقول المحتجّون إنها «فشلت» في معالجة الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وبين العاصمة والريف. فعلى رغم مضيّ عقدَين، إلّا أن الانتقال لم يكن سهلاً، بل واجه تحدّيات، مِن مِثل: غياب الاستقرار السياسي، والفساد الواسع النطاق الذي أثّر في ثقة البيروفيين بالسلطة والعملية الديموقراطية، فضلاً عن الفقر وعدم المساواة اللذَين لم يُنههما النموّ الاقتصادي. ويُعدّ «دستور عام 1993، الموروث من حقبة فوجيموري، هو المسؤول الأوّل عن استدامة هشاشة النظام»، ولا سيما أنه يسمح لأعضاء الكونغرس المنتخَبين بإقالة الرئيس من دون مبرّر حقيقي، وفق ما تورد صحيفة «لوموند» الفرنسية، مشيرة إلى أن الأحزاب السياسية ما هي إلّا «مجرّد تكتّلات ذات مصالح خاصة». بالتالي، ترى الصحيفة أنه «لا يمكن البلادَ الخروج من ركودها من دون تغييرات عميقة في نمط الحُكم». وعلى رغم أن بيرو تعلّمت التعايش مع «الدراما السياسية» بالنظر إلى تاريخها الحديث، غير أن «الانتحار السياسي» الذي تَمثّل في إطاحة كاستيو، يبدو أنه سيستمرّ، وسيزيد من خطورة الوضع في البلاد، خصوصاً في ظلّ تمسّك بولورات بمنصبها الجديد. وكانت هذه الأخيرة قد أظهرت، أخيراً، مرونةً تجاه المحتجّين بدعوتها إيّاهم إلى الحوار، لكنها أكدت أن «هناك مطالب لا تستطيع تلبيتها، مِن مِثل إطلاق سراح كاستيو». أمّا التنازل الوحيد الذي أبدت استعدادها لتقديمه، فهو حثّ الكونغرس على تقديم موعد الانتخابات.
نما الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد بمتوسّط سنوي بلغ حوالى 4% - 5% في العقدَين الماضيَين


وبالفعل، ونتيجةً للضغط الشعبي، صوّت الكونغرس، بشكل مبدئي، لتقديم موعد الانتخابات العامّة إلى نيسان 2024، أي قبل عامَين من موعدها المحدّد. لكن هذا القرار أتى «بعد فوات الأوان بالنسبة إلى معظم البيروفيين»، وفق ما يقول الباحث السياسي، ويل فريمان، في مجلة «فورين أفيرز» الأميركية. وفي حين يَعتبر فريمان أن «بولورات والكونغرس يفتقران إلى الشرعية»، فإنه يجادل بأن «مشكلات بيرو أعمق من الصراع على تقويم الانتخابات». إذ ثمّة، بحسبه، سوء استخدام من قِبَل الكونغرس والرئاسة لسلطتَيهما، حيث يتمتّع الأوّل بصلاحية عزل الرئيس، والثاني بصلاحية إغلاق الكونغرس، وهو ما يصفه بأنه «تآكلٌ ديموقراطي سيستمرّ حتى في حال استقالة بولورات والكونغرس غداً». بالتالي، فإن الحلّ، وفق فريمان، يكمن في إجراء إصلاحيات دستورية تُلزم كلاً من السلطتَين التشريعية والتنفيذية بالتنازل عن جزء من صلاحياتهما.
من زاوية أخرى، اعتبر رئيس القيادة المشتركة للقوات المسلحة، بيرو مانويل جوميز دي لا توري، أن «المحتجّين سيئون للغاية، لقد حاولوا خلْق الفوضى... ومنْعنا من التمتّع بالرفاهية». على أن هذه «الرفاهية» تبدو مفقودة بالنسبة إلى جزء معتَبر من السكّان الذين لا يستفيدون من التنمية لأنهم ولدوا في جزء آخر من البلاد (الجنوب ومرتفعات جبال الأنديز)، وفق الكاتب خوانو فرنانديز، الذي يشير، في «لوس أنجليس تايمز» الأميركية، إلى إحصائيات المستوى الاجتماعي في بيرو لعام 2021، والتي أظهرت أن 61.5% من السكّان يتراوح متوسّط دخْلهم الشهري للفرد بين 322 و529 دولاراً أميركياً، مقابل 1% من السكّان يمثّلون الطبقة الأغنى في البلاد. كذلك، ذكر تقرير صادر عن «الأمم المتحدة»، أخيراً، أن حوالى 16.6 مليون بيروفي، أي أكثر من نصف السكّان، «لا يحصلون بانتظام على طعام كافٍ وآمن، على الرغم من حقيقة أن «البنك الدولي» يصنّف هذا البلد في الشريحة الأعلى من فئة الدخل المتوسّط. وعلى الرغم من أن المناطق الجنوبية، وبسبب ثروتها الطبيعية الهائلة، تتلقّى حوالى 53% من جميع الاستثمارات في مجال التعدين وتنتج 18% من الناتج المحلّي الإجمالي، إلّا أنها تتمتّع أيضاً بأدنى مؤشّرات التنمية البشرية وأعلى معدّلات الفقر المدقع، وفق ما تقول الباحثة السياسية والأستاذة في جامعة «ديل باسيفيكو»، سينثيا سانبورن. على أن «هذه الأرقام ليست نتاج حكومة كاستيو، ولا جائحة كورونا، ولا أزمة الوقود التي سبّبتها الحرب الأوكرانية، بل هي نتيجة الفساد وعدم كفاءة الاقتصاد والقطاع غير النظامي (الفئات التي تعمل من غير تصاريح، ولا تخضع لنظام الضرائب، مِن مِثل المافيات ومهرّبي المخدرات والشبان دون سنّ العمل)»، وفق ما يرى فرنانديز. والدليل على ما تَقدّم، أن اقتصاد بيرو حقّق نموّاً كبيراً منذ عام 2000، حيث نما الناتج المحلّي الإجمالي للبلاد بمتوسّط سنوي بلغ حوالى 4% - 5% في العقدَين الماضيَين، غير أنه لم يتمّ توزيع فوائد هذا النموّ بالتساوي بين السكّان، بالتالي لم ينخفض معدّل الفقر بالقدر المتوقَّع، فيما ظلّ التفاوت مرتفعاً.