ترتفع سخونة معركة الانتخابات الرئاسية في تركيا على مسافة أقلّ من خمسة أشهر من موعدها المقرَّر في 18 حزيران المقبل. غير أن التطوّرات والمفاجآت السياسية تضغط في اتّجاه تغيير هذا الموعد. ومع أن الحسابات تأخذ في الحسبان بعض العوامل المستجدّة غير السياسية، غير أن العامل السياسي يبقى الأهمّ لجهة تغيير الموعد من عدمه. ويبدو أن هناك ميْلاً داخل «حزب العدالة والتنمية» إلى تقديم موعد الانتخابات، في ضوء عوامل عدّة، منها أن شهر حزيران سيكون شهر عطلة، وشهر الامتحانات العامّة للطلاب، وكذلك شهر الحج ووجود الآلاف من الحجاج خارج البلاد. لكن الحزب الذي اجتمعت لجنته المركزية، يوم الاثنين الماضي، برئاسة زعيمه، رئيس الجمهورية رجب طيب إردوغان، بحث جدّياً في خيار تقديم الموعد، ليكون الأحد في 14 أيار المقبل؛ وذلك لعاملَين: الأوّل هو الارتباك الذي أصاب جبهة المعارضة بعد طلب القضاء سجن رئيس بلدية إسطنبول، أكرم إمام أوغلو، ومنْعه من ممارسة العمل السياسي، وهو كان المرشّح الأوفر حظّاً للتصدّي لإردوغان في معركة الرئاسة. ومع أن القرار القضائي ليس نهائياً بعد، غير أن الحُكم النهائي يمكن أن يَصدر في أيّ لحظة، ما يجعل ترشيح إمام أوغلو مستَبعَداً بالكامل، وخصوصاً أن القرار أساساً ليس قضائيّاً، بل سياسي، وبإيعاز من رئيس الجمهورية نفسه. هذا الاستبعاد جعل رئيس «حزب الشعب الجمهوري»، كمال كيليتشدار أوغلو، يقدِّم نفسه بصفته المرشّح الأوحد للرئاسة، وخصوصاً أنه زعيم الحزب الأكبر في المعارضة. غير أن «طاولة الستة» التي تضمّ تجمُّع أحزاب المعارضة، لم تتّفق بعد على مرشّح مشترك، بالنظر إلى أن زعيمة «الحزب الجيّد»، مرال آقشينير، لا تميل إلى ترشيح كيليتشدار أوغلو، وتفضّل رئيس بلدية أنقرة منصور ياواش، ذا الاتجاه القومي، على رغم أنه ينتمي هو الآخر إلى «حزب الشعب الجمهوري». كما أن كوْن كيليتشدار أوغلو علويّاً يزيد من حجم التحفُّظ على ترشيحه. كذلك، فإن الخلافات بدأت تعصف بـ«جبهة الستة» عبر تصريحات متوالية لرئيس «حزب المستقبل»، أحمد داود أوغلو، الذي قال إن رئيس الجمهورية المقبل، في حال فوز مرشّح المعارضة، يجب أن يكون بمثابة أمين سرّ «طاولة الستة»، وأن لا يتّخذ قرارات إلّا بعد التشاور مع أركانها، وهو ما أثار استياء الأحزاب الكبيرة في «الطاولة»، حيث بالكاد يمكن «المستقبل» أن يحصل على اثنين أو ثلاثة في المئة، وربّما أقلّ من الأصوات. حتى إن البعض ذهب إلى حدّ اتهام داود أوغلو بمحاولة تخريب «جبهة الستة».حتى الآن، عقدت المعارضة 10 اجتماعات، وستعقد اللقاء الـ 11 في 26 كانون الثاني الجاري، فيما تقول أوساطها إنها ستقرّر، في شباط المقبل، اسم مرشّحها للرئاسة، لكنها، مع هذا، لن تعلن عنه قبل أن يتحدَّد بشكل رسمي ونهائي موعد الانتخابات، وذلك حتى لا يستغلّه إردوغان لحسابات انتخابية تتعلّق بموعد إجراء الاستحقاق. وما يزيد من تشرذم المعارضة، إعلان «جبهة الحرية والعمل» التي تضمّ «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي (على الأقلّ 10% من الأصوات تذهب إليه)، وأحزاباً يسارية أخرى، عن تسمية مرشّحها الخاص للرئاسة قريباً. وهذا يعني، بلغة الحسابات، أن الصوت الكردي سيذهب، في الدورة الأولى، إلى مرشّحه الخاص به، ولن يذهب إلى مرشّح المعارضة في حال قدّمت «الطاولة» مرشّحاً موحّداً ومشتركاً. كما يعني - أيضاً بلغة الأرقام - أن مرشّح المعارضة لن يفوز من الدورة الأولى، تماماً مثلما لن يفوز إردوغان في هذه الدورة، حيث يُتوقَّع أن ينال كلُّ منهما بحدود 42% - 44% من مجموع الأصوات. وذلك، حسابيّاً، يصبّ في مصلحة الرئيس التركي، لأن الذهاب إلى دورة انتخابية ثانية يدفع قوى سياسية كثيرة، كما الناخب نفسه، إلى إعادة حساباته. وعلى خلفية ما تَقدّم كلّه، يشجّع إردوغان على تقديم موعد الانتخابات، قبل إتاحة الفرصة أمام المعارضة للتوحُّد أو إطلاق حملة انتخابية كاملة وشاملة في كلّ تركيا.
أما العامل الثاني الذي يدفع إردوغان في اتّجاه تقديم موعد الانتخابات، فهو أن استطلاعات رأي توضع أمامه، تعكس تقدُّماً في شعبية حزبه، قياساً إلى التراجع الذي شهدته في الأشهر الأخيرة. ومن عوامل التقدّم، الزيادات في الأجور، والتقديمات الاجتماعية من خزينة الدولة إلى الموظفين، والتسهيلات في القروض السكنية. غير أن تقديم الموعد يحتاج إلى واحد من أمرَين: إمّا اتّخاذ البرلمان بغالبية الثلثَين قراراً بالتقديم، وعندها يحتاج «حزب العدالة والتنمية» وشريكه «حزب الحركة القومية» إلى نواب المعارضة لأنهما لا يمتلكان وحدهما غالبية الثلثَين. وإذا لم تمضِ المعارضة بهذا الخيار، يلجأ إردوغان إلى إحدى صلاحياته كرئيس للجمهورية، ويعلن حلّ البرلمان التركي في 8 آذار ليُنشر بعده في الجريدة الرسمية، في التاسع منه، ومن بعدها ينتظر مرور شهرَين على القرار ليصبح نافذاً وتجرى الانتخابات يوم الأحد في 14 أيار. وليست مصادفة أن يكون الموعد في 14 أيار؛ ففي ذلك اليوم من عام 1950، فاز «الحزب الديموقراطي» بزعامة عدنان مندريس، على «حزب الشعب الجمهوري» بزعامة عصمت إينونو بنتيجة كاسحة أنهت حُكم حزب أتاتورك الذي استمرّ منذ عام 1923، وفتحت الطريق أمام التيارات الإسلامية لتأخذ نَفَسَاً. وبالتالي، يراهن إردوغان على جميع الرموز الممكنة ليحشد أكبر عدد من الأوراق والأصوات في انتخابات رئاسية ستكون مصيرية له ولحزبه «العدالة والتنمية» وللتيار الإسلامي التركي والتيار الإسلامي «الإخواني» في المنطقة العربية والإسلامية. كما ستكون هذه الانتخابات مصيريّة لتلمُّس بوصلة تركيا في السياسة الخارجية بين استمرار السياسة الحالية، أو حلول سلطة جديدة تعيد النظر في كلّ هذه السياسات، مع ما يترتّب على ذلك من نتائج بالغة الأهميّة على الصعيدَين الإقليمي والدولي.