بقرار ذاتي، ودفْع وتزكية أميركيَين، وبنتيجةِ تراكمات وسياقات لعبت لغير صالحها، قرّرت المعارضة الفنزويلية، أخيراً، التخلّص من «هَمّ» خوان غوايدو الذي بات يمثّل، بما حملتْه حقبته من إخفاقات، عبئاً عليها وعلى الأطراف الخارجية الداعمة لها. وإذ جلّى هذا القرار فشل الاستراتيجية الأميركية التي اتُّبعت حيال نيكولاس مادورو، وسعي واشنطن لابتداع أساليب جديدة في التعامل مع كاراكاس مُحفَّزة أوّلاً بأزمة الطاقة العالمية، فإن الأنظار تتّجه إلى المباحثات المقبلة في المكسيك، ومِن بَعدها الانتخابات الرئاسية، والتي يُتوقّع أن يعزّز فيها مادورو موقعه وقوتّه، في ظلّ الأداء البائس الذي لا تزال تُظهره المعارضة
افتُتحت، أخيراً، صفحة جديدة في الحياة السياسية الفنزويلية، مع قيام المعارضة بإلقاء قفّاز خوان غوايدو، إثْر فشَل الأخير في تسجيل أيّ إنجاز في رصيدها، في مقابل تمكّن الحكومة من الصمود في وجهها، وتقطيع مرحلة الصراع الداخلي بقدْر «معقول» من الخسائر، على رغم جسامة العقوبات الأميركية المفروضة على كاراكاس. وقد جاء اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، وما ولّده من حاجة غربية إلى مصادر طاقة بديلة، وبالتالي من إعادة انفتاح على نظام نيكولاس مادورو، ليكون بمثابة ضربة قاضية لمَن نُصّب يوماً «زعيماً مؤقّتاً». ضربةٌ استُكملت فصولها نهاية الشهر الماضي، عبر قيام المعارضة، مِن على منبر «الجمعية الوطنية» الموازية للبرلمان الموالي للسلطة، بإقصاء غوايدو من رئاستها، وحلّ «الحكومة المؤقّتة» التي يقودها، فضلاً عن قرارها، بموجب القانون نفسه الذي حاز تأييد 72 عضواً مقابل رفض 23 وامتناع 9 عن التصويت، تشكيل مجالس إدارة ولجان تنفيذية للإشراف على الأصول التي تسيطر عليها في الخارج، وتحديداً في الولايات المتحدة والبرتغال وإنكلترا، والتي أوضح مُحامون موالون لها أن القانون يوفّر أدوات كافية لـ«حمايتها».
وإذ أثارت تلك الخطوة سخط غوايدو والتيّار المؤيّد له، والذي وصفها بـ«العار» و«الانتحار»، فهي جلّت بوضوح الانقسام في صفوف المعارضة، التي «ضربتْها مع مرور الوقت البيروقراطية، بعدما تمّ تصوّرها كأداة لإنهاء الديكتاتورية»، وفق ما تَلفت إليه شبكة «دويتشه فيله» الألمانية، مشيرة إلى أن «معظم الدعم الدولي الذي تمّ الحصول عليه في البداية قد ضاع نتيجة أخطاء وفضائح فساد أثّرت على الفترة الانتقالية»، مشدّدة على «حاجة المعارضة إلى وضع استراتيجية سياسية جديدة تسمح لقيادتها بإعادة التواصل مع الناس واحتياجاتهم». على أن هذا قد لا يكون بمتناول اليد عشيّة استئناف المحادثات مع الحكومة قريباً في المكسيك، خصوصاً أن غوايدو، «كقائد صُوري، أثْقل كاهل المعارضة ومَنعها من إجراء التغييرات اللازمة لتكون أكثر نجاحاً»، وفق ما تَنقل صحيفة «لوس أنجليس تايمز» الأميركية، في تقرير مطلع الشهر الجاري، عن مايكل شيفتر، الرئيس السابق لـ«مركز أبحاث الحوار الأميركي» في واشنطن، والذي يرى أيضاً أن «سلطة مادورو لا تزال راسخة كما كانت دائماً، وليس لدى المعارضة ما تُقدّمه»، فيما يشير ديفيد سميلد، عالم الاجتماع في «جامعة تولين» والخبير في الشأن الفنزويلي، في حديث إلى الصحيفة نفسها، إلى أن «لدى المُعارضين أحزاباً جديدة وقادة جُدداً، لكنهم لم يستطيعوا التقدّم إلى الأمام».
إزاء ذلك، تتكاثر الشكوك حول حظوظ المعارضة في الانتخابات الرئاسية المقرَّر إجراؤها عام 2024، على رغم لجوئها إلى تشكيل لجنة مسؤولة عن تنظيم انتخابات تمهيدية العام الجاري، لاختيار مرشّح واحد عنها قادرٍ على مواجهة الحزب «الاشتراكي» الحاكم. وفي هذا السياق، نقلت وسائل إعلام إسبانية عن الأستاذ في العلوم السياسية، دانييل فارناجي، قوله إن المعارضة «تجد نفسها في وضع معقّد مع مستويات منخفضة للغاية من التوقّعات والثقة». وإذ شدّد فارناجي على ضرورة «تعزيز المعارضة»، فهو أبدى شكوكاً في إمكانية تشكيلها «جبهة سياسية»، متحدّثاً عن أن «هناك العديد من مجموعات المصالح داخلها، تلتقي بشكل دائم مع حكومة مادورو». وإلى جانب اعتزامها الانخراط في السباق الانتخابي خلافاً لِما فعلته عام 2018 عندما أحجمت عن المنافسة في الرئاسيات، وكذلك عام 2020 حينما قاطعت البرلمانيات، «من المرجّح أن تحاول المعارضة أيضاً، في خلال محادثات المكسيك المرتقبة، المقايضة بين رفْع العقوبات الأميركية عن قطاعَي النفط والغاز، وبين الحصول على تنازلات سياسية من النظام»، وفق ما أورده موقع «فويس أوف أميركا» بنسخته الإسبانية، مستدرِكاً بأن الأرجح هو «انهيار هذه المحادثات في نهاية المطاف»، على اعتبار أن «حكومة مادورو من غير المرجّح أن تُقْدم على تنازلات من شأنها أن تهدّدها في انتخابات 2024»، خصوصاً بعدما باتت في موقع أقوى إثْر نفْض القوى الغربية يدها من حكومة غوايدو، التي اضطرّت هي الأخرى إلى الاعتراف بالأمر الواقع، والإقرار بشرعية منافِستها.
شهد العام المنصرم عودة العديد من السفراء إلى قصر «ميرافلوريس»


على أيّ حال، وعلى الرغم من أن غوايدو لا يزال يأمل بقاءه على المسرح السياسي من خلال دعوته إلى «إعادة توحيد البديل الديموقراطي»، واعتباره أنه لا يزال من الممكن هزْم مادورو، إلّا أن الفصل الذي بدأ مع صعود نجم الرجل يبدو أنه قد انطوى عملياً، في ما «يمثّل ضربة للولايات المتحدة التي دعمت غوايدو بثبات»، بحسب ما وصّفت به صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية، الواقع. على أن هذه الضربة قد تكون مرغوبة من قِبَل واشنطن نفسها، بعدما تحوّلت المعارضة الفنزويلية إلى عبء عليها، وسبب في «جمود ديبلوماسي» تتطلّع إدارة جو بايدن إلى كسْره من خلال الانفتاح على مادورو، مُحفَّزة أيضاً، وبشكل أساسي، بالأزمة التي ولّدتها أسعار الطاقة العالمية، وفق ما لفتت إليه المحلّلة لدى مجموعة «يوراسيا» (Eurasia)، ريسا غريس تارغو، في حديث إلى وكالة «بلومبرغ» (19 كانون الأوّل الماضي). وإذ «يمكن لبايدن الآن تعديل سياسة دونالد ترامب الخارجية الفاشلة تجاه فنزويلا، وتطبيق سياسة أكثر واقعية تستخدم العقوبات كحافز للتفاوض وليس عقاباً للأبد»، بحسب ما يقول الأستاذ في «معهد دراسات الإدارة المتقدّمة في كاراكاس»، مايكل بنفولد، في تصريح إلى الوكالة نفسها، فإن واشنطن تضع بالفعل رهانات على المحادثات المرتقَبة في المكسيك، من أجل «إعادة تأسيس شكل من أشكال العلاقة... والتمهيد لعقْد اتّفاقات سياسية تسمح لمادورو ببعض المرونة السياسية التي تساعده على تعزيز حكومة معترَف بها أكثر مستقبلاً»، كما تَنقل «بلومبرغ» أيضاً عن لويس فيسينتي ليون، مدير شركة «داتاناليسيس» للبحوث (مقرّها كاراكاس).
هذه المرونة بدأت مؤشّراتها تَظهر بالفعل مع إعلان مادورو استعداد كاراكاس «للتقدّم في عملية تطبيع العلاقات مع واشنطن»، وسط توقّعات بأن يشهد عام 2023 «درجة أكبر من التقارب»، بحسب ما رجّحته صحيفة «إلبِايس» الإسبانية الأسبوع الماضي. وكان مسار التقارب بدأ منذ تشرين الأوّل الفائت مع إجراء البلدَين عملية تبادل للسجناء، ثمّ سلك مساراً تصاعدياً في كانون الأوّل لدى إعلان التوصّل إلى اتفاق سياسي بين الحكومة والمعارضة الفنزويليتَين، والذي أعقبه سريعاً تخفيف للعقوبات المفروضة على كاراكاس عبر منْح شركة «شيفرون» الأميركية ترخيصاً جديداً مدّته 6 أشهر، لتنفيذ مشاريع مشتركة مع شركة النفط الوطنية الفنزويلية «PDVSA». وفي خضمّ ذلك، كان مادورو يستعيد شيئاً فشيئاً حضوره الديبلوماسي، والذي بلغ ذروته في تشرين الثاني حيث سافر الرئيس الفنزويلي إلى مصر، وحضر «قمّة المناخ» في شرم الشيخ، وسُجّلت مصافحات ولقاءات بينه وبين زعماء ومسؤولين غربيين، في وقت بدأ فيه النظام يستعيد السيطرة على السفارات التي فقدها إبّان ذروة نشاط المعارضة، وعادت الحياة إلى القطاع السياحي في البلاد، والذي استأنف استقبال زائرين من أوروبا خصوصاً، علماً أن الحكومة كانت سمحت بتداول الدولار الأميركي إلى جانب البوليفار، وهو ما أتاح بدوره الحدّ من الركود الاقتصادي.
على رغم ما تَقدّم، يظلّ مادورو حذراً إزاء نيّات واشنطن، وهو ما جلّاه أسفه في خطابه الأخير «لاستمرار السياسات العدوانية الأميركية ضدّ بلاده»، في حين يبدو أكثر اطمئناناً إلى «استقرار العلاقات مع الاتحاد الأوروبي والتحرّك نحو التطبيع»، إذ أكد أن هذه العلاقات «تتقدّم، وهناك حوار دائم مع وزير خارجية الاتحاد، جوزيب بوريل، وكذلك مع ممثّلي الأعضاء الـ27». وكان الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، قد التقى مادورو على هامش «قمّة المناخ»، معرباً عن رغبته في عودة العلاقات بين فنزويلا وأوروبا، داعياً نظيره الفنزويلي إلى لعِب دورٍ في الحرب الروسية - الأوكرانية. ويرى خبراء أن الأوروبيين باتوا مقتنعين بإمكانية الرفع التدريجي للعقوبات، وتحديداً في قطاع النفط، وهو ما يؤشّر إليه تقديمهم طلبات إلى وزارة الخزانة الأميركية لتسهيل عمل شركتَي «إيني» و«ريبسول»، سرعان ما قوبلت بالموافقة. ومن هنا، يعرب ماريانو دي ألبا، الباحث في «مجموعة الأزمات الدولية»، في حديث إلى «إلبايس» الإسبانية، عن اعتقاده بأن «الوضع يتغيّر لأن الفرص الاقتصادية الضخمة تتفتّح».
على المستوى الديبلوماسي، شهد العام المنصرم عودة العديد من السفراء إلى قصر «ميرافلوريس»، مقرّ حكومة فنزويلا، لتسليم أوراق اعتمادهم. وجاءت البرتغال على رأس قائمة هؤلاء؛ إذ قدّمت سفيراً جديداً لسلطات كاراكاس في شهر آذار الماضي، ثمّ تلتْها إسبانيا التي اختارت رامون سانتوس ليحلّ محلّ السفير السابق خيسوس سيلفا، ووافقت في المقابل على تعيين كوروموتو غودوي سفيراً جديداً لكاراكاس لديها. ووفق صحيفة «إِلموندو» الإسبانية، فإن حكومة بيدرو سانشيز، بهذه الخطوة، قد بدأت «في الابتعاد عن غوايدو»، علماً أن مدريد كانت سبّاقة في الاعتراف بالأخير عندما أعلن نفسه رئيساً انتقالياً، وفي توفير الحماية للزعيم المعارِض ليوبولدو لوبيز، الذي كان لجأ إلى سفارتها في كاراكاس. وكان العديد من ممثّلي حكومات أميركا اللاتينية قد عادوا هم أيضاً إلى فنزويلا، وعلى رأسهم سفير كولومبيا التي استأنفت علاقاتها مع جارتها بعد وصول اليساري غوستافو بيترو إلى سُدّة الرئاسة، مروراً بالأرجنتين التي استبدلت القائم بالأعمال بسفير كامل الصلاحيات، وليس انتهاءً بهندوراس والبرازيل اللتَين خطتا خطوات مماثلة إثر فوز اليسار في الانتخابات الأخيرة التي أجريت فيهما.