يقول الديبلوماسي السوفياتي العريق أندريه غروميكو: «عشر سنوات من الديبلوماسية أفضل من يوم واحد من الحرب». ولكن، ماذا لو أن الديبلوماسية فشلت ونشبت الحرب؟ هل هناك فوائد تُجنى منها؟ لعلّ إحدى فوائد العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، التي بدأت في 24 شباط من هذه السنة، تمثّلت في أن معظم صهاينة الإعلام الروسي «الليبرالي» تفرّقوا أيادي سبأ، وأن صروحهم الشامخة قد هوت. ومن بين وسائل الإعلام تلك، ثلاثٌ كانت الأكثر صراخاً والأعلى صخباً. أولاها، إذاعة «صدى موسكو» (بالروسية «إيخو موسكفي»)، التي توقّفت عن البثّ بعد أسبوع من بدء العملية.يجب القول إن وسائل الإعلام الروسية، التي بدأت بالتشكّل بعد اعتلاء ميخائيل غورباتشوف سدّة السلطة في الاتحاد السوفياتي في سنة 1985، كانت تُعادي كلّ ما هو عربي، وتُهلّل لكلّ ما هو غربي، حتى لو عارضه «الشرفاء» في الغرب.
وقد بدأ الصهاينة الروس أولى محاولاتهم للسيطرة على وسائل الإعلام السوفياتية بعد إعلان سياسة «البيريسترويكا» (إعادة البناء) في سنة 1986. وفي ما بعد، أحكم الأوليغارشيون اليهود قبضتهم على وسائل الإعلام الروسية في زمن «الانبطاح» الأسطوري للرئيس الروسي الراحل، بوريس يلتسين، أمام الغرب. ومن هؤلاء بارون النفط والإعلام والطيران، حامل الجنسية الإسرائيلية الراحل بوريس بيريزوفسكي. ومن بينهم أيضاً، إمبراطور الإعلام الروسي والإسرائيلي، مؤسِّس المؤتمر اليهودي الروسي، فلاديمير غوسينسكي، الذي أنشأ إذاعة «صدى موسكو» في سنة 1990.
وعلى الرغم من أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، سمّى «صدى موسكو»، ذات مرّة، بـ«إذاعة الأعداء»، فإن «نظامه الدموي» لم يجرؤ على «قمعها»، كي لا يتعرّض لسهام النقد من كلّ حدب وصوب، ولاسيما أن الإذاعة كانت تتمتّع بدعم لا نظير له من البيت الأبيض والاتحاد الأوروبي. أمّا بالنسبة إلى الشرق الأوسط، فكانت «صدى موسكو» تروّج لسياسة أقصى اليمين العنصري الإسرائيلي، وتنعت بالإرهاب حركة «حماس» الفلسطينية، كما و«حزب الله» اللبناني، مع أن المنظّمتَين غير مدرجتَين على القائمة الروسية الرسمية للتنظيمات الإرهابية. لقد كانت هذه الإذاعة معقلاً لليهود الصهاينة الروس، بِمَن فيهم كبيرهم الذي علّمهم الحقد أليكسي فينيديكتوف، وكذلك الكاتب الساخر فيكتور شينديروفيتش، الذي كان يشمت بفلسطينيي غزة عندما كانت تقصفهم إسرائيل، والصحافية يوليا لاتينينا، الحائزة جائزةَ غولدا مائير، والتي كانت تصف ياسر عرفات بالإرهابي، و«فتح» بالمنظمة الإرهابية، وتكنُّ عداء مَرَضياً لغزة، حيث لم يكن يخلو أيّ برنامج لها من مهاجمة «حماس» بمناسبة أو بغير مناسبة.
على أن بثّ الإذاعة «الجبارة» لم يكن ليستمرّ إلى ما لا نهاية، وبخاصة بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وبعد تعديل الفقرة الثالثة من القانون الجنائي الروسي في 4/3/2022، وتشديد المسؤولية الجنائية عن «نشر المعلومات الزائفة عن القوّات المسلحة الروسية»، وفرْض عقوبة تصل إلى السجن 15 عاماً «إذا ما أفضت هذه المعلومات إلى عواقب خطيرة». هكذا، صمتت هذه الإذاعة في 5/3/2022، لأوّل مرّة بعد 32 عاماً من إنشائها، وتحوّل صحافيّو «صدى موسكو» إلى موقع «يوتيوب»، حيث يبثّون برامجهم على قناة «جيفوي غفوزد» (المسمار الحيّ)، ولا يتعدّى عدد مُشاهديهم 700 ألف، بينما قدّرت وكالة أنباء «ريا نوفوستي» قبل عامين (2/3/2020) عدد مستمِعي الإذاعة المحتمَلين بنحو 46 مليوناً. أمّا يوليا لاتينينا، فتُقيم منذ سنة 2017 في الولايات المتحدة، ولديها قناتها الخاصة على «يوتيوب». وهي لا تزال تبثّ أكاذيبها بالزخم نفسه، لكن صوتها لا يصل إلّا إلى مَن هم على شاكلتها، في حين أن فيكتور شينديروفيتش أعلن في مطلع 2022 مغادرته روسيا إلى مكان لم يفصح عنه.
كانت «صدى موسكو» تروّج لسياسة أقصى اليمين العنصري الإسرائيلي


وبعد إغلاق «صدى موسكو»، لاقت المصيرَ نفسه صحيفةُ «نوفايا غازيتا» «الليبرالية» المغالية في تطرّفها، حيث أصدرت إحدى محاكم موسكو في 5/9/2022 حُكماً بإلغاء رخصة النسخة الورقية من الصحيفة. يُذكر أن «نوفايا غازيتا» ظهرت سنة 1993، في عهد يلتسين أيضاً، وكانت تَصدر بالتعاون مع صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية. وقد اشتهرت بمعارضتها العمياء لبوتين وتغطيتها العدائية للأحداث السياسية الروسية. ولعلّ رئيس تحريرها، دميتري موراتوف، حاز لذلك، سنة 2021، جائزة نوبل للسلام. ولم تكن تغطيتها للشؤون العربية أفضل حالاً؛ إذ تُمكن الإشارة على نحو خاطف إلى مقالَين استفزازيَين للمخرج اللبناني المغمور، وديع الحايك، الذي كان يكتب فيها. فقد نشر خبراً زائفاً في 15/3/2022 عن مشاركة عناصر «حزب الله» في العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وذلك في مقال له تحت عنوان «الموت هو حرفتهم – "حزب الله" يرسل مقاتلين للمشاركة في "العملية الخاصة" الأوكرانية». وفي مقال آخر تحت عنوان «مَن يصطاد القادة الفلسطينيين؟»، يُطمئِننا إلى وجود «وحدات إسرائيلية سرّية تعمل وسط العرب» (12/5/2021)، ويسمّي المقاتلين الفلسطينيين بالإرهابيين. ومن الطبيعي أن هذه الصحيفة لم تَعُد تَصدر الآن إلا في الإنترنت، وأصبحت تتوخّى الحذر في كلّ ما تنشره.
إضافة إلى «نوفايا غازيتا»، كانت هناك قناة «دوجد» (المطر) التلفزيونية الاستفزازية، التي ظهرت في سنة 2010. وأصبحت هذه القناة، التي تصفها وسائل الإعلام الغربية وكذلك العربية بـ«المستقلّة»، تتلقّى تمويلاً علنياً من الاتحاد الأوروبي بدءاً من سنة 2014، «للترويج للقيم الأوروبية، والتحدّث عن مختلف المشروعات التي ينفّذها الاتحاد الأوروبي في روسيا»، كما قالت في حينه مديرتها العامة. وقد أُوقف بثّ «دوجد» من روسيا في الثالث من آذار 2022، ليُستأنف بعد ذلك في 18/7/2022 من ريغا، عاصمة لاتفيا. وبحلول نهاية آذار، كان معظم صحافيّي القناة قد غادروا روسيا. أمّا ميخائيل زيغار، الذي ترأس تحريرها منذ إطلاقها وحتى سنة 2015، فهو مأخوذ بقشور الحضارة الغربية، ويعمل على الطريقة الأميركية. وقد غادر روسيا إلى ألمانيا، حيث اكتشف أن لديه ميولاً جنسية مثلية، فتزوّج من الممثّل الأوزبكستاني - الغيني، جان-ميشال شيرباك، في حين أن نجمة القناة، الفضائحية كسينيا سوبتشاك، فرّت منذ وقت قريب من روسيا، ودخلت أراضي ليتوانيا بجواز سفر إسرائيلي ساري المفعول (وفقاً لوزير الخارجية الليتواني).
على أن ذلك كلّه ليس داعياً إلى إقامة الأفراح وقرْع الطبول؛ إذ إن تلاميذ بيريزوفسكي وغوسينسكي من الصحافيين الروس «الليبراليين»، تحوّلوا إلى «بوتينيين» أشدّاء يخيفون بالكرملين زملاءهم. ومن هؤلاء فلاديمير سولوفيوف الحاضر ليلَ نهارَ في الإذاعة والتلفزيون وعلى «يوتيوب». وهو اليهودي الذي لا ينسى في كلّ مرّة شتْم الرئيس الأوكراني اليهودي، فولوديمير زيلينسكي، على الهواء لإرضاء مشاعر مشاهديه، ويواكبه في ذلك رئيس جهاز «ناتيف» الإسرائيلي السرّي السابق، ياكوف كيدمي، ذو الأصول الروسية، والذي أمدَّ إسرائيل في عهد غورباتشوف المشؤوم بنحو مليون مهاجر يهودي سوفياتي، والآن يحلّ ضيفاً دائماً على برنامج سولوفيوف التلفزيوني. بيد أن ضبط هذا الإعلام «الليبرالي» الروسي المنفلت، الذي وصفه المفكّر الإسرائيلي - الروسي التقدّمي، إسرائيل شامير، في سنة 2015، بـ«الأداة الطيّعة بيد الطابور الخامس، الذي يعمل ضدّ مصالح روسيا الوطنية»، أصبح أكثر سهولة بعد بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، ولرُبّ ضارة نافعة.

* كاتب لبناني مقيم في موسكو